إنها المعجزة في زمن غادرته المعجزات، كما تمنيتها في الأحلام، فبعد أن غادر هؤلاء الذين جعلوا شراسة الأمن، وحيله الرخيصة التي تخلو من الشرف المهني والسياسي والحزبي والوطني، واختفت بلطجيتهم من المشهد بجمالهم وحميرهم وبغالهم وكرابيجهم وعصيهم وخناجرهم وملامحهم الفظة، انتظمت كل أطياف المجتمع المصري متخلية عن هوياتها السياسية صفا واحدا في ميدان التحرير. الجدد أبناء طفرة المعرفة والتواصل الإليكتروني عبر الشبكة العنكبوتية الذين ليسوا تنظيما سريا، بل هم أبناء ثورة حرية المعرفة، يتحدثون لغة جديدة، يعرفون تأثير وأهمية الفضاء الافتراضي العالمي الذي وفرته أجهزة الكومبيوتر، ويدركون أن الإعلام في عالم كوني واحد هو قرية صغيرة، قوة هائلة، وعرفوا كيف يتواصلون معه بلغة الصورة، وبكثافة الدلالة الموجزة للشعار المرفوع، عندما تسمع أحدهم يتحدث تجد صوته خفيضا وهادئا، لا ينفعل ولا يثرثر، كما أنهم لا يدعون البطولة، ولا يبحثون عن أدوار الزعامة. هم الذين أطلقوا ثورة 25 يناير، التي تصور الجهاز الأمني أنه سينهيها بسهولة، فهم شباب لا يطلق الرصاص، لكنه يحلم، وفي يده أقلام الرصاص، بها يرسم بيتا ووردة وسنبلة. لم يمر هؤلاء بعالم التنظيمات السرية، ولم يحللوا أيديولوجيات منتحلة علي مقاهي المثقفين. لا يكذبون علينا ولا علي أنفسهم، والدليل تحولهم لأسود مقاتلة عندما خرجت عليهم البلطجية والقناصة المحترفة، وغاب عن المشهد ليلة الجمعة 4 فبراير جميع الشهود والمتفرجين. ليلتها لم أنم وخرجت للمرة الأولي للمظاهرة في ميدان التحرير، لأشعر أنني في حلم طوباوي أشرق مع الصباح، منتقبات ينمن في منتصف الميدان، وبنات الجامعة الأحدث موديل تداعب نسمة الهواء شعورهن، والملتحون مع الشعراء يشكلون خطوط دفاع عن مداخل الميدان. إنهم الشهداء جاءوا لنا بريح الجنة، بسبب بطولتهم أتنفس الآن بحرية، وأشكر الله أن مكنني أن أشاركهم هذا الشرف، وأن أشاهد بعيني المسيحيين يقيمون قداس الأحد والمسلمين يصلون صلاة الغائب في يوم الشهيد والجيش المصري يحرس المشهد، والوطن والمهنيين الشرفاء والمحترفين الوطنيين يعبرون عن الولاء للنظام وللوطن، لمبارك ولأبناء مصر الغاضبة معا. المشير طنطاوي واللواء عمر سليمان وقائد الأركان سامي عنان حققوا معادلة الجمع بين كل المتناقضات معا لصالح الوطن، حموا شرفهم العسكري، ولم ينقلب أحدهم علي الولاء القديم ولا أغرت الأحلام الانقلابية الجيش المصري ولا مؤسسة الأمن القومي للانقضاض علي الشعب أو السلطة، لغة القوة غير المثقفة رحلت من المشهد، يبدو إذن الجيش هنا كضامن حقيقي لسلامة الوطن. ويلوح في الأفق حقا، أن الثورة الشعبية المصرية السلمية قد جاءت بأحلام الحكم المدني وخيال التعددية السياسية وتداول السلطة ورأس المال، وانسجام عميق بين كل ألوان الطيف السياسي والديني والمهني والاجتماعي في مصر. ترددت كثيرا في كتابة ذلك، فكما قال نزار قباني : ترددت كثيرا لأن الورد ليس مضطرا لأن يشرح للناس العبيرا ولكن المشهد كان في أنحاء أخري مشهدا مختلفا فقد أصر الإعلام المصري علي أن يستعيد الماضي الغابر عندما كان وحده في المشهد يعلن للناس في 1967 أننا علي أبواب القدس، بينما الجنود كانوا يناضلون ضد الفوضي والهزيمة وسط رمال سيناء فرادي، فكرس لغياب المصداقية وخلط الكذب بالتعاطف المحترم مع الرئيس مبارك لقطاعات عديدة في مصر، وهم الطيبون الذين ليست لهم مصالح مباشرة مع النظام. فقام بدمجهم ضمن منظومته غير المهنية، وحرم مصر من إظهار أهلها لتسامحهم وطيبتهم وعواطفهم النبيلة. والتي احترمها المتظاهرون أنفسهم عندما أقروا بحق الموالين الحقيقيين للرئيس بالتظاهر في ميدان مسجد مصطفي محمود، ولم يهاجمهم أحد، بل إن نبرة حمدين صباحي المناضل العتيد حول الخروج السياسي للرئيس كان يحمل نبرة احترام له، فالثوار نبلاء بالضرورة. وفي الشوارع وعلي المقاهي ووسط اللجان الشعبية، ولغياب اهتمام المواطن المصري العادي بالعمل والشأن السياسي، وتركزه علي مصلحته المهنية والخاصة لعقود طويلة، ظهرت مجموعة من الآراء الغرائبية بعضها طريف للغاية، وبعضها مخيف بل مرعب علي فكرة مصداقية صندوق الاقتراع الانتخابي لتحديد مستقبل مصر القادم. فإذا ما طرحنا جانبا أن أهل مصر، قد خرقوا حظر التجول وسدوا الفراغ الأمني وأظهروا أجمل وأنبل وأفضل ما في الشخصية المصرية، إلا أنهم كعادتهم صنعوا عددا لا بأس به من المواقف المضحكة، سأذكر بعضها علي التوالي لتناقضها ولدلالتها البسيطة. فقد رفع بعض تجار السلع الأسعار، لكنهم باعوا بالأجل حتي عادت البنوك للعمل، تشاجر المؤيد والمعارض علي المقهي، وداخل اللجان الشعبية ولكن، لم يعتد أحدهم علي الآخر، ومارسوا الحراسة والسمر طوال الليل. بدأ الجميع يبحث عن الدستور بدأ الجميع يفكر بأن له دورا في مستقبل مصر. مرة تشاجرت مع صبي المقهي المجاور لمنزلي، لأنه اتهم شباب ميدان التحرير بأنهم هناك من أجل وجبة وخمسين جنيها، بعد يومين ابتسم في وجهي وأنا أعبر الطريق، وجري ناحيتي وقال : (هات لي كتاب.. أنا قلت لأمي أنك هاتجيب لي كتاب). أمسكت دموع الفرح في عيني، فها هي مصر تتعافي من أوهام الفيديو كليب الحسية، وأفلام العبط التي تكرس للمال والجنس والقوة وهاهم شباب مصر الذين خدعوهم بنماذج احتذاء كاذبة وبمثل عليا حسية ومادية يتعافون من أزمتهم الروحية. وها هو أحد شباب الشارع المعروف عنه إدمانه للمخدرات، يغني بدهشة أثناء حراسته الليلية بكل مزاج معتدل : يا حبيبتي يا مصر.. ثم يضحك ويهمس في أذني : ( يا أخي أنا مكنتش فاكر نفسي وطني كده...) ثم يعود ليضحك، ثم يغني يا حبيبتي يا مصر. أما ماسح الأحذية المعتاد في المقهي المجاور، فقال لي رأيه وهو عفوي للغاية، ولكنه عميق : ( إللي عايز يغير، لازم يتغير) تأملته، ولم أناقشه فعلي القوة الجديدة القادمة في مصر أن تؤمن حقا بأنها لابد أن تغادر السلطة، وأيا من كان من قوي المجتمع المصري في الحكم، فالجميع سيراقبه ويحاسبه ويغيره. لقد اطمأن قلبي حقا لأن الديمقراطية في مصر لا تخيف إلا أعداء مصر. بقي لنا فقط، أن نؤمن بأن قيمة ثورة الشباب تكمن في كونها بلا رأس واحد، ولا قيادة مركزية، ولا زعيم ملهم. وأن دور الجماعة الوطنية هو تثقيف الإرادة الجماهيرية خارج مشهد الثورة، حفاظا علي دخولها للاهتمام بالشأن العام وحماية لصندوق الانتخابات العامة، وهو الحلم الحقيقي القابل حقا لأن يكبر ويحضر قويا مخلصا. هذا هو المشروع الحقيقي للمستقبل شرف الصراع الحاد العنيد : هو وقف ضعف القوة المفرطة، اللجوء لحضارة القوة الناعمة، صراع يحقق كل التناقضات ويصل بنا جميعا علي حدة الخلاف، لمصر جديدة كبيرة مدنية، عادت بالفعل كما لم يحلم أحد. وسيدخل نظام مبارك الأخير والثوار معا التاريخ من أشرف أبوابه، إن استمرت معركة الانتقال السلمي للسلطة في مصر في ظل حياد الجيش وباللجوء للحلول السياسية فقط.