لم يكن من عادتى أن أضع عنوانًا للرواية التى أكتبها، إذ كان العنوان هو آخر كلمة أو كلمتين تُكتَبان بعد الانتهاء من كل شىء. ففى رواياتى السابقة كنت أظل حائرًا فى العنوان أيامًا عديدة، قبل التوصّل إلى التسمية النهائية. ولكنى فعلت ذلك فى هذه الرواية قبل أن أبدأ الكتابة. كتبت العنوان ثم بدأت الرواية: «أرواح صخرات العسل». كان هذا جديدًا علىّ تمامًا، وكانت فائدته عظيمة حين قاد النصّ هذه المرّة. وابتداءً من ذلك تقرّر مصير أحد الشبّان الثلاثة الذين فكّرت بهم كشخصيات للرواية. وكان هذا أكثر غرابة، ولعلّ الرواية تُشير إليه صراحة، إذ يبدو أحد الرُواة وهو نائل الجوف حائرًا طوال النَّص فى أمر اليقين الذى ألقاه «عابد» أحد شخصيات الرواية على نفسه، وهو أنه سيموت قُرب صخرات العسل بعد ست سنين وشهرين. كانت مشكلة بناء الرواية هى الشاغل لى فى البداية، وقد بدأ النص براوٍ شِبه عليم، يُقدّم للقارئ المعلومات عن الشبّان الثلاثة. أصبح بوسعه أن يتفلسف أيضًا، لأنه ليس واحدًا من الشخصيات، وسُرعان ما تبيّن لى أنّ كثيرًا من المعلومات ستظلّ ناقصة بسبب عدم قدرة الراوى على معرفتها، ولا التكهّن بها. وهكذا وُلدت فكرة الراوى الثانى، وهو شاب من جيل الأصدقاء ويعرفهم جميعًا ولديه مَيلٌ قوىّ لادّعاء المعرفة بكل شىء. وقد استطاع هذا الراوى أن يسدّ كثيرًا من الثغرات السردية التى يستحيل على الراوى الأوّل أن يكون مُلمّا بها. وبوجود هذين الراويين أشبعت جميع الحكايات والقصص عن الشبّان الثلاثة وعن حياتهم. أمّا الراوى الثالث فهو كاتب النَّص النهائى، وهو يتدخّل أحيانًا لعمل الوصلات الضرورية بين القصص، أو لوضع حمايات مخفيّة للمناطق الفارغة التى قد يتركها الراويان الآخران. وهكذا تكون قد اكتملت الواسطة لجمع الحكايات عن الشبّان الثلاثة. خصوصًا أن الرواية قد كُتبت عنهم بعد موتهم كما هو واضح فى النصّ منذ البداية. وكان الشُغل الرئيسى لدىّ هو: كيف يُمكن أن أكتب رواية عن الحرب لا يرى القارئ فيها الحرب البتة؟ وما الأثر الذى تتركه وراءها فى أرواح الناس؟ تبدّلت المسارات أثناء الكتابة. فقد تمرّ كلمة ما، ومن بينها كلمات أكون قد كتبتها خطأ، فتخطرُ لى فكرة جديدة، أو أجد أنّ على الشخصية أن تسير فى الطريق الذى ترسمه تلك الكلمة، لا فى الطريق الذى فكّرت به من قبل. وعند ذلك لا أتردّد البتة، بل أمشى طائعًا فى المسار المُقترح إلى نهاية الفكرة، أو الحادثة الجديدة، أو العلاقة التى تظهر. حدث هذا أكثر من مرّة أثناء كتابة الرواية، وعدّلتُ النص وفق مشيئته. وأكثر هذه المسارات صعوبة هو تغيير الواقعة الأصلية، أى انتحار شاب سمعتُ حكايته. فرغم أن الرواية تبدأ بكلام عابد عن الموت، وأن الواقعة المروية لى تتضمّن حكاية انتحار، فقد رفضتْ الشخصية الانزلاق إلى ذلك الخيار. أخذت الحرب روحىّ اثنين من الأصدقاء الثلاثة، حيث قُتلا بعد استدعائهما إلى قوّات الاحتياط فى الجيش. وقد ماتا فى حرب لم يفهما منها شيئا، ولهذا يبدو موتهما عبثيّا، فى حرب عبثيّة. الحقيقة أنّ ما حدث فى سوريا فى هذه السنوات يتجاوز خيال أى روائى بالمطلق، وتقليد الواقع سيكون معجزة لو تمكّن الروائى من احتوائه. أمّا مصير عابد فقد اتّخذ مسارًا مختلفًا عن رفيقيه، بسبب المُصادفة، إذ لم يستدع إلى قوّات الاحتياط فى الجيش، وبقدر ما كان موت صديقيه عبثيّا، فقد كان موته أكثر عبثية. ويزيد الغموض الذى رافق موته، فى وضعه ضمن دائرة مُحيّرة تكاد تلفّ السوريين جميعًا؟ إنه فى الحقيقة، كما أقنعتنى الرواية، هو موتنا العام الذى يستعجل التنفيذ، أو يؤخّره، فى حياتنا.