«فلفل» سايس جراج بإحدى عمارات شارع من أهم شوارع الإسكندرية. طريق أبوقير، أو طريق الحرية، أو طريق جمال عبدالناصر، ولكل واحد أن يختار الاسم المناسب، حسب مزاجه، أو حسب رأيه السياسى. (الموت على طريقة فلفل - مجموعة الرجل المناسب - فتحى غانم). الكتابة عن «فتحى غانم» تعنى أن تتورط معه فى كل هذه الكثافة النصية، فى كل هذا العمق اللغوي؛ فى كل ذاك الالتباس السياسى والاجتماعى والتاريخى بهذه البساطة والسلاسة التى تغرق بها عيناك فى الأسطر التى يفترش بها مدخل قصته القصيرة! من المؤسف كذلك التعرض لكيان بحجم «غانم» على طريقة النبش فى الدفاتر القديمة؛ ذلك أن هذا الرجل هو بحق حالة فى تاريخ العربية الحديث. فى هذه القصة القصيرة التى أشرنا إليها فى مستهل الحديث يلف «غانم» بقارئه عالما كاملا وأزمنة متباينة وطبقات اجتماعية متمايزة وحالات إنسانية لشخوص تمر بالنص كوميض خاطف قبل أن يخبرك أن «فلفل» - هذا السايس المعقد البسيط - قد حظى بميتة ضخمة ك «بروتاجو نيست» تقليدى عظيم فى مسرحية هى أقرب لملهاة مبهمة الأحداث لم يفهم «فلفل» نفسه منها شيئا؛ لم يعلم بالقوى الفاعلة المحركة لهذه الأحداث المتسارعة التى انتهت بموته لقاء مائتى جنيه أجرة نقلة لورى واحدة من المينا إلى الجمرك لصالح «رجلنا الكبير» الذى يعرف كل شيء عن فلفل فيما لا يعرفه أحد؛ يجهل «فلفل» تماما محتوى النقلة غير أنه يعلم ضمنا أنها «خطر»؛ لكن هناك اتفاقاً مع البوليس يحميه من مغبة هذه الخطورة والتى سيقود اللورى الذى يشحنها بسرعة تزيد على 140 كم. «يوسف إبراهيم» - اسم الضابط الذى اتفق وقبض المعلوم بما يضمن نجاح «فلفل» فى مهمته المجهولة التى ستعفيه من بهدلة السياسة - العمل بالجراجات يعنى فلا يلعبن الاصطلاح برأسك - فى اللحظة الحاسمة يفاجأ «فلفل» بطلب توقيف لتفتيش اللوري؛ يصيح «الأطرش فى الزفة» بأن «يوسف إبراهيم» منع التفتيش؛ لا يبدو أن أحدا فهم شيئا أو أهابه الاسم؛ أمام المفاجأة يندفع «فلفل» هربا من كمين المينا مستغلا مهاراته الأسطورية التى استغلها «غانم» بدوره سابقا ليغزل حكاية «فلفل» السريعة المكثفة عن «الست» وعن «فريد الأطرش» بل و«هارون الرشيد»؛ ويندفع البطل الإغريقى للفرار بكل مسببات اختياره لهذه المهمة الغامضة لينتهى الحلم لكن إلى جثة بين حطام اللورى وشحنته! حسنا راجع معى الأسطر الأولى مرة واحدة بعد؛ راجع الخيارات الواقعية جدا التى طرحها «غانم» لاسم الشارع؛ ألا يثير الأمر برأسك تلك الحكة إياها؟ إن لم يفعل؛ فلنعد إذا إلى مجموعة مقالاته المعنونة «معركة بين الدولة والمثقفين»؛ هذه السلسلة التى قصد منها «غانم» تشريح أزمة الصحافة فى «مصر» عبر تدوين شهادته الشخصية فى الحقبة «الناصرية» ثم «الساداتية» إذ يقول «غانم» مثلا: ولاشك أنى دخلت معهما - يقصد أحمد بهاءالدين وكامل زهيرى - فى الدعوة إلى الاشتراكية؛ ولكنى لم أحددها بقواعد علمية وقيدت تصورى لها بأنها لا تشكل قيدا على حرية الأديب والفنان؛ كما اكتفيت بالأفكار السياسية دون دخول المعترك السياسي»؛ فى موضع آخر من المقالات يتحدث «غانم» بإفاضة عن تجربته فى خوض معركة نقابة الصحفيين ضد رغبته الشخصية بحكم كونه «شخص انطوائى» - كما يصف نفسه - قليل العلاقات والمعارف؛ فيما جرى الدفع به على قوة التنظيم الطليعى فى سياق ما اعتبره تجربة كفئران المعامل لقياس قوة اليسار واليمين والتيارات السياسية المتضاربة داخل الوسط الصحفي؛ كما يقول بنفسه شارحا الأمر! ربما نتفق مع «يوسف القعيد» حول غموض الاصطلاح الذى استخدمه «غانم» والذى يخلط بين «المثقف» و«الصحفى» وقد نتفق أيضا حول أن المعركة المقصودة هى بالأساس تخص «غانم» إذ أنها - المقالات - هى نص يوثق شهادة كاتبه فى المقام الأول؛ لكن حال اتفاقنا - سيما فى النقطة الأخيرة - فيمكننا القول بضمير مستريح إن «غانم» يتبرأ من أى صلة تربطه باليسار؛ أو هو فى أحسن تقدير لا يحسب نفسه على هذا المعسكر؛ وكل عناصره بما فيها الممثلة فى السلطة. نشأ «غانم» فى أسرة تنتمى لطبقة «البرجوا» - بمفهومها النيوكلاسيكى - لديها تطلعات طبقية وتهتم بتعديل وضعها على خارطة التراتبتية الاجتماعية؛ فى مقالاته عن التشريح الطبقى المجتمعى فى «مصر» عبر دراسة الحراك الفنى بالأساس تستشعر ثمة «ارتياح نفسى» للاتجاه الذى يسلكه المجتمع ثقافيا بهدف دفع الحراك الطبقى نفسه لآفاق أرحب مقابل حراك طبقة الإقطاع الزراعى المتمثل فى السيطرة على «الشريحة الوظائفية» المتروكة للمصريين داخل قطاعات الدولة بإرادة المستعمر وسلطاته منذ عام 1919. غانم - وإن لم يعلنها بفجاجة - إذًا هو أكثر ميلا للفكر الليبرالى برغم هذا «التاريخ» اليسارى الذى يؤكد أنه جرى إلباسه له إلباسا! لكن ولعلك تتفق معى - الفعل السياسى اليسارى الذى قد تعارضه هو أمر مختلف كثيرا عن المنتج الثقافى اليسارى الذى لايكتمل الوعى الفكرى للفرد دون إدراكه وتذوقه؛ على هذا فقد لا نلمس خطابا أدبيا ثوريا متشنجا بالضرورة فى أعمال «غانم» كما فى أعمال كتاب اليسار الروس أو المصريين، بيد أن أعماله فى الوقت نفسه لا تخلو من السمت الواقعى لبعض شخوصها - سيما الهامشية؛ تلك الواقعية الأسطورية - إن جاز التعبير - إذ تغرق فى أزماتها الشخصية فى الوقت الذى تعرى فيه فساد المجتمع والواقع السياسى فى آن؛ وهى واحدة من أبرز سمات الأدب اليسارى سيما الروسي! شخصيا لا أميل لمقارنة الأعمال الأدبية إلا بقدر ما يستلزمه النقد؛ لكن مع الإصرار على نغمة أن «غانم» قد تعرض لظلم؛ فلابد من المقارنة إذًا؛ ليس تدليلا على نفى هذا الظلم أو إثباته؛ فالحق أنى كنت دوما أرى فى أدب غانم ما يجعله يسمو كثيرا عن الزَّنة بمكاييل التقييم التقليدي؛ بعبارة أخرى تجاهل الذهب؛ أو إنكاره أو التعامى عنه أو حتى الادعاء بغير حقيقته لاينفى كونه ذهبا ولو بعد مائة عام؛ فى هذا السياق وحده يظل «أدب» فتحى غانم عصيًّا على الغبن؛ خذ عندك رواية «الرجل الذى فقد ظله» هذا النص البوليفونى بالغ التراكب سهل الأسلوب هو فى صلب الأمر عمل أكبر من أن «يظلم» لمجرد أنه لم ينخرط فى الطقوس الاحتفائية الجوفاء التى «ينعم» بها كتاب آخرون أقل شأنا وأصغر موهبة! إن أصابع الاتهام التى طالت بقوة وبوضوح شخوصا - أو بالأدق شخصا - صورته الرواية تعطيك فكرة عن قدرة «غانم» على تلبس الواقع لا اقتباسه؛ «محفوظ عجب» مثلا فى «دموع صاحبة الجلالة» - موسى صبرى بقدر ما أثاره من لغط حول ماهية الشخصية و«ظلها» فى الواقع الصحفى لكنها لم تبلغ حد الكمال الذى بلغته شخصية «يوسف السويفى» التى جرى بناؤها أربع مرات عبر بناء سائر شخوص الرواية، حتى نصل إلى «يوسف» الذى داس على كل شيء فأصبح فى نظر نفسه «أقوى من الحياة». من بين الأمور التى تميز أدب «غانم» كذلك أن نقله إلى أعمال فنية تمثيلية لايغنيك عن القراءة؛ حتى فى الأعمال التى كتب لها السيناريو والحوار بنفسه؛ دوما ما تجد نفسك كمتلقٍ مشدودا إلى النص المكتوب إلى كثافة اللغة أو حتى إلى سذاجتها كما فى قصة المطلقة التى كتبها فى 1962 بأسلوب أقرب إلى سيناريو سينمائي؛ يظل أسلوب «غانم» فى عرض النص له طزاجة لاتختزل سينمائيا؛ وإذا عادت المقارنات لتفرض نفسها مجددا إذًا لقلنا أن أدب نجيب محفوظ - فى رأيى على الأقل - لا يمتلك هذه الميزة؛ إذ كان للسينما دور مهم فى «تسويق» أعمال «محفوظ» مقارنة بأصولها المكتوبة ربما مردّ ذلك إلى المنحى الفنى الذى اتخذه «محفوظ» فى حياته المهنية؛ مقارنة بالمنحى الصحفى ل «غانم» الذى طالما اعترف بأن الصحافة - وكل مناصبها التى ارتقاها - لم تكن سوى وسيلة لممارسة الأدب على نطاق منشور؛ على أية الحال يمكن للأديب أن يكون صحفيا لابأس به على الأقل فيما يخص صياغة الخبر وصناعته وترصده أيضا، لكن قد يفشل صحفى مخبر لامع فى أن يكون أديبا متواضعا حتي! «غانم» الذى لم يتعرض للاعتقال أو للتفتيش أوضح فى مقالاته أنه كان لديه ثمة مشكلة أو هاجس تجاه نفوذ الأمن - وليس الدولة - فى العملية المهنية وفى المشهد الثقافى وداخل الوسط الصحفي؛ الحد الذى يجب عنده أن يثق الأمن فى قدرة المثقف على خلق وعى شعبى يعمل بدوره على تأمين السلطة وحماية أمنها؛ وهى النقطة التى ستظل دوما محل خلاف بين المثقف الليبرالى وبين الأنظمة الأوتوقراطية. إقحام «غانم» على اليسار - بحسب ما صوَّر الأمر بنفسه - وتصادمه مع الإطار الأمنى للسلطة من جهة أخري؛ فضلا عن طبيعته الشخصية الميالة للرصد والدراسة أكثر منها للمتابعة الخبرية كلها عوامل خصت أدب «غانم» بنوع من الانسلاخ عن الطقوس الاحتفائية التقليدية التى تعج بها أوساطنا الأدبية والثقافية حين تلعب الشللية دورها فى إعلاء كاتب ونبذ آخر؛ ولعمرى لعل هذه «حسنة غير مقصودة» حازها أدب «غانم» ليظل بمعزل عن تقلبات وأهواء الكاتب فلان والناقد علان والمؤرخ علتان. منذ سنوات وفى زيارتى لمعرض الكتاب - على رواقه - قبيل مشارفة الدورة على الانتهاء وبعد «فض مولد» أجنحة دور النشر البراقة وحفلات التوقيع الرنانة؛ فى جناح الهيئة العامة للكتاب تراصت بإهمال - مفهوم طبعا - إصدارات نادرة لأمهات الكتب بأسعار زهيدة وفى طباعة - شخصيا - أعتبرها رصينة إذ لا تتسم بإخراج فنى مبهرج أو غلاف كوشيه كام لون؛ كلها على الأرض؛ من بينها أعمال «فتحى غانم» ووقفت فتاة مراهقة تسأل صديقها - أو هو أخوها - فى عمر مقارب لها «هو مين فتحى غانم ده»؟؛ لا أظن مثلا أن جائزة ك «نوبل» - على ما تردد بشأنها وقت منحها لمحفوظ - كانت لتغير كثيرا فى اللهجة الاستنكارية التى تساءلت بها؛ بعبارة أخرى ربما كان السؤال عن أى اسم آخر بما فيها «محفوظ» نفسه؛ ولعل ذلك مرده إلى ما حذر منه «فتحى غانم» قبلا حين يتنبأ بتجريف العقل والوعى العام فى ظل إصرار أجهزة الدولة على خنق المبدع والتضييق على حرية الفن واغتيال الثقافة منعا لوجع الدماغ.