يختار الكاتب مصطفى بيومى فى كتابه/ دراسته، 22 رواية مصرية أبطالها مناضلون ماركسيون ليقف على ملامح الشيوعيّة المصرية: ماذا حدث وأين نقف الآن؟ شهادات إبداعية، سياسية بكل تأكيد، يقرأها بيومى مستخلصا «شهادة مُتوازنة عن الموقع الذى يحتلّه الشيوعيون فى الحياة المصرية»، أو كما يرجو. «شخصيات شيوعية فى الرواية المصرية» الصادر حديثا عن دار الثقافة الجديدة، يُقدّم صورة بانورامية عن قصّة حياة اليسارى المصرى. مسيرة الشيوعيين: «يجتهدون فيُخطئون ويُصيبون». يقول الباحث والمؤلف إنها دراسة، تبحث عن «رؤية الروائى»، دون إبداء الاتفاق أو الاختلاف معها. على مدى أكثر من نصف قرن، يستقرأ مصطفى بيومى المشهد إبداعيا، حيث سبقته جهود بحثية بارزة للتأريخ لحركة اليسار المصرى، والماركسية والشيوعية المصرية. إنما المميّز لدى بيومى هو قراءة الإبداع، والبحث عن رؤية المُبدع، الذى لم يغب هو نفسه عن المشهد. جميع من تتناول الدراسة أعمالهم بالتحليل، ينتمون إلى مذاهب سياسية وتيّارات فكرية متنوّعة. بعضهم انخرط فى العمل الثورى، والبعض الآخر تقاطعت خبرات حياته مع النضال الشيوعى، ولو تعاطفا، أو انقلابا وانسلاخا. والأغلبية وقف موقف الليبرالى التقّدمى. ولذلك تأتى أهمية تلك الشهادات. هذه الأهمية، هى معرفة الحدود المُتقاطعة بين الماركسية وبين الليبرالية الاشتراكية وتيّار الفكر التقدّمى الرافض للطبقيّة والاستغلال، الذى يُعدّ محفوظ من أبرز المنتمين إليه. بعضهم ما زال يحلم ب«حُلم المُصالحة» بين الدين والاشتراكية والديمقراطية. فى العام 1941، يشتعل العالم فى حرب طاحنة تصنع المعاناة والوعى معا، وتنتشر على الجدران عبارة «الخبز والحريّة». يكتب بيومى فى مرّات مُحاولا وصف المشهد الذى غلّف أجواء بعض تلك الأعمال. صراع الشخصيات بين الالتزام الأيدلوجى الصارم، وبين الهيام الفلسفى الميتافيزيقى والمثالية، ذلك «الترف الفكري» الذى يُحقق فقط المتعة الذهنية. ثم هناك الماركسية المُتزمّتة، «التوجيه» و«التبشير»، الإرادة الثورية قبل الثقافة، والحياة فى جوهرها «نضال مستمرّ». الروائى مناضلا 22 شخصية شيوعية فى الرواية المصرية التى يكتبها، نجيب محفوظ، لويس عوض، فكرى الخولى، شريف حتاتة، فتحى غانم، يوسف إدريس، مرورا برفعت السعيد، كمال القلش، على الشوباشى، عبد الحكيم قاسم، بهاء طاهر، رءوف مسعد، صنع الله إبراهيم، جميل عطية إبراهيم، علاء الديب، أسامة أنور عكاشة، جمال الغيطانى، إبراهيم عبدالمجيد، محمود الوردانى، واستكمالا للمسيرة بحسين عبدالعليم، مكاوى سعيد، وأمنية طلعت. شهادات عن التحوّلات الجذرية التى تطال المجتمع المصرى، نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات. نجيب محفوظ تعاطف مع الشيوعيين. شهادات أخرى عن طبيعة العلاقة بين الشيوعيين والوفد. يكتب لويس عوض فى مُقدّمة روايته الوحيدة «العنقاء.. أو تاريخ حسن مفتاح» إن الرواية «شاهد على ضريح مرحلة كاملة من مراحل حياتي»، الفترة من 1944 وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، الفترة التى شهدت استقطابا حادا فى المجتمع المصرى بين اليمين واليسار. شهادة عن الشيوعية تجمع بين الجديّة والفانتازيا والعبث، الهذيان والتمزّقات الروحية، الشخصية المحورية ظاهرها ثورى وملىء بالأمل، وباطنها مسكون بالقلق والتوتر. شهادة عن «الوعى النظرى للمثقفين». فى المقابل؛ لا تُقدّم «الرحلة»، السيرة الذاتية الروائية لفكرى الخولى، أحد أبرز قادة الحركة العمالية النقابية، والمناضل اليسارى من طراز فريد، شخصية شيوعية بطل للرواية، لكنها - الرواية - تجسيدٌ للمناخ الذى يتشكّل فيه وعى المناضل الشيوعى، ذلك الوعى الطبقى الفطرى. فى أعمال أخرى، شهادة عن الوطن بعد الحرب العالمية الثانية. ما السرّ فى أزمة اليسار؟ المعركة ما زالت مستمرّة، ولا يزال هناك أمل. يقول الطبيب عزيز فى رواية شريف حتاتة «العين ذات الجفن المعدنى»: «الشعب كالمحيط ما زلنا نتحرّك على سطحه بعيدا عن الأعماق». يمكن اعتبار «حكاية تو» لفتحى غانم مرثيّة للمناضل الشيوعى شُهدى عطية الشافعى (1911- 1960) الذى يموت تحت وطأة التعذيب فى أحد المعتقلات الناصرية. يستقرئ مصطفى بيومى ملامح التقارب والتشابه، ليستخلص الشهادة التى يُمرّر منها غانم «إدانة» إلى النظم الاستبدادية المُتسلّطة التى تزعم احتكار الوطنية. تستمّر قراءات صاحب الدراسة للأعمال. الروايات التى ترصد التحوّلات الجذرية، والانقلاب الشامل فى شخصية الشيوعى، ليست قليلة، ولها نصيب من هذه الدراسة. المهندس أحمد حامد الحلو فى رواية «تغريدة البجعة» لمكّاوى سعيد يتحوّل إلى واحد من شيوخ التعصّب الدينى والتطرّف. وأخيرا فى «طعم الأيام» لأمنية طلعت، عن السقوط والانكسار، استشهاد المناضل الشيوعى المثالى، تتوالى الأحداث بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، ولا يتوارى الشيوعيون عن المشهد، لكنه ذلك «الوجود الهش المُتهافت». تاريخ على التاريخ يمكن استخلاص تاريخ موجز للشيوعية المصرية، كأجواء رسمتها تلك الأعمال، وبعضها أحاطت به وعاصرته. لعبتْ الطليعة الشيوعية فى مصر دورا مُهمّا فى التاريخ السياسى والثقافى المصرى منذ النصف الثانى من ثلاثينيات القرن العشرين. ساهمتْ فى تشكيل وعى مُختلف يتجاوز السياسى التقليدى المباشر إلى آفاق اجتماعية وفكرية أكثر رحبة. ما لبثت أن تحوّلت شعاراتها وأهدافها إلى جزء أصيل راسخ من مقولات الناصرية (التقارب الذى لا يرقى إلى التحالف منذ مُنتصف الستينيات فى ذروة التوجّه الشعبى للزعيم ونظامه). ومن ذلك الحين، لا يزال ثمّة انقسام بين الحركات الشيوعية حول المرحلة الناصرية: تعاطف قطاع عريض من الشيوعيين مع عبدالناصر بسبب انحيازه للفقراء (جمهور الحركة الشيوعية)، وتحفّظ قطاع آخر من قهر وسيطرة الأجهزة الأمنية فى عهده والمعاناة والأذى الذى طاله الشيوعيون فى السجون لسنوات، من نهاية الخمسينيات إلى قرب منتصف الستينيات. استمرّت طموحات وأحلام الشيوعية المصرية فى تلبية احتياجات القطاعات الشعبية الفقيرة حتى بعد عبدالناصر. القطاعات الشعبية الفقيرة لا يعرفون شيئا عن النظرية الماركسية، «أو لا يعرفون شيئا على الإطلاق، لكنهم يُراودون حياة أفضل وأكثر عدالة وأقل قسوة وظلما» يكتب مصطفى بيومى. الحركة الشيوعية المصرية فى نشأتها الأولى، و«الأمراض الشائعة المُزمنة للحركة الشيوعية المصرية» بحسب تعليق المؤلّف. أفضتْ هزيمة يونيو إلى ميلاد جيل جديد من الشيوعيين فى الجامعات المصرية وصفوف المثقّفين والطبقة العاملة، تُحرّكهم مرارات الكارثة الوطنية وذبول الأحلام الناصرية وغياب الاقتناع بالجيل الشيوعى السابق. تراجع بعض الشيوعيين عن أفكارهم، الإرهاق والإحباط واليأس، انكسارٌ يصل ذروته مع سقوط الاتّحاد السوفيتى وانهيار منظومة الدول الاشتراكية فى أوروبا الشرقية، هواجس السقوط المدوّى بحسب تحليل مصطفى بيومى، نجدها عند لويس عوض ويوسف إدريس وفتحى غانم وكمال القلش وعلى الشوباشى وعبدالحكيم قاسم ورءوف مسعد. «التراجع اللافت فى ربع القرن الأخير» لم يُنه الأثر الثقافى للشيوعيين فى الحياة المصرية. شهادات إبداعية عن الألم والأمل. يُحدّد المؤلف عناصر سار على دربها فى قراءته لتلك الأعمال/ الشهادات، منها الأصول الطبقية للشيوعيين، ثم الفرق بين الانتماء الطبقى الموروث وبين الوعى الطبقى المكتسب. «الشيوعيون يُغرّدون خارج السرب، يهدّدون ثوابت المجتمع والمصالح المادية لمن يملكون وسائل الإنتاج»، هو العامل المُشترك تقريبا فى كل الروايات. تنفرد الشيوعيّة ب«الوُجود المُتوهّج» للمرأة داخل تنظيماتها، مما لا نجد له نظيرا فى الحركات السياسية الأخرى، الوفد والإخوان وتنظيمات يوليو. والحكم لبيومى. مرثيّة لليسارى الشيوعى على قدر من التعليم والاحتراف المهنى عالٍ، صحفيون وأساتذة جامعة وأطباء وموظفون وطلّاب وعمّال، ثقافة جادّة وعميقة، وقُدرة على الإقناع والتأثير بسبب المنهج المتماسك، إنما الانتشار بين صفوف الجماهير من الناس العادية «لا يتوافق مع البراعة والكفاءة». ومن ثم تُقدّم تلك الروايات/ الشهادات مرثية عن التراجع النسبى للشيوعية المصرية: الموقف من الدين والثقافة النخبوية الرفيعة للقادة الشيوعيين. الخطاب الجاد العميق الذى تتبنّاه ويستعصى وصوله إلاّ بقدر مُمثال من الوعى غائب فى الشارع المصرى. يقول المؤلف الباحث: «تصطدم أفكار الشيوعيين مع الوعى المحدود السائد». الخطاب السياسى والفكرى للشيوعيين المصريين ليس معقّدا لكنه لغة جادّة لا يستوعبها من تعوّد على شعارات أكثر بساطة وأقلّ عمقا. مثلا؛ فى «الحب فى المنفي» لبهاء طاهر شهادة عن «الجمود العقائدي» الذى لا يرى إلا ما يُريد أن يراه. أغلب الشخصيات الشيوعية موضوع الدراسة لا يتّخذون موقفا عدائيا علنيا صريحا من الدين، الوجه الآخر من النقد المسيحى عند رءوف مسعد فى «بيضة النعامة»، يتحرّك فى دائرة شيوعية مُغلقة دون البوح العلنى. وهى ملحوظة ذكيّة من مصطفى بيومى. يكتب «الشيوعيون لا يُهاجمون العقائد الدينية، لكن أعداءهم يستثمرون موقف (الفلسفة المادية من الدين) للتشهير والإساءة لأسباب سياسية». الحسّ الإنسانى السوى، هو التيّار العارم بين كل الشخصيات الشيوعية فى الروايات محلّ الدراسة. فها هو مسعد يتجرّأ ويفضح الأزمة الجنسية للمعتقلين والسجناء، وفى الرواية يرفض «الكهنوت الماركسي» فى هجومه على التجربة الإثيوبية، وهو ما دفع ثمنه مسعد نفسه، قطيعة ومقاطعة من «الرفاق».