الأكف مرفوعة للسماء.. الدموع تملأ العيون.. الدعوات تخرج من الأفواه محملة بالآهات.. وجوه من كل صوب ودرب قطعت عشرات الأميال من أجل إيصال رسالة إلى السماء وكلهم أمل أن يستجيب رب العباد لتضرعاتهم. طقوس المصريين فى إيصال دعواتهم إلى الرب مختلفة، فالأمر لم يقتصر على الجلوس فى المنزل والدعاء أثناء الصلاة بشكل منفرد بعيدًا عن الأنظار، فالبعض يقصد أماكن بعينها للدعاء، وهناك من يترك دعواته مكتوبة على أعتاب الأضرحة وداخل الكنائس، مصحوبة بالدموع والصلوات. طقوس الدعاء قام بها المسلمون والمسيحيون على السواء باختلاف الأماكن التى توجهوا لها، البعض منهم بحث عن المشقة كجزء لقبول دعواته.. «روزاليوسف» تواجدت بين المتضرعين فى الكنائس والمساجد والأماكن الدينية المتنوعة التى توجه لها أتباع الطوائف الدينية فى 2017، بحثًا عن أمل وصول الدعوات للسماء. فمن داخل ال 13 كنيسة بدير الأنبا أنطونيوس فى البحر الأحمر، رصدنا دعوات المسيحيين والزوار، فالأمنيات والرسائل التى تركها أصحابها فى منطقة الدير تتحدث عن نفسها وكأنها من علامات المكان.. فالأمنيات موجودة بين الصخور فى شكل ورق صغير، وكذلك داخل مغارة الدير التى يصعد إليها زوارها بالسير على الأقدام 45 دقيقة فى الجبل، وأيضًا داخل ال13 كنيسة التى زرناها داخل الدير. وحرص رجال الدين المسيحى على مساعدة الحاضرين فى وضع أمنياتهم أثناء الزيارة بسهولة ويسر، وضعوا لهم «قلمًا» للكتابة وصندوقًا فى كل كنيسة فى مكان منفرد بعيدًا عن أعين المتواجدين للخلوة لمدة دقائق لكتابة أمنيتك ودعوتك للرب ووضعها فى الصندوق، وتميزت صناديق الأمنيات باللون الأحمر. الصناديق صغيرة تتسع 500 ورقة فى كل كنيسة، وبعد وصولها للحد الأقصى يتم جمعها بكميات كبيرة ويجلس عليها الرهبان فى الدير لتلاوة الصلاة عليها، لوصول دعوات أصحابها إلى الرب والاستجابة لأصحابها. تريزا شابة ثلاينية من سكان محافظة مطروح، قالت لنا باكية: «حضرت إلى هنا للصلاة وكتابة الدعوات، والجلوس بين يد الرب بعيدًا عن الجميع، حيث أحرص على الحضور إلى هنا بشكل دائم؛ خصوصًا عند حدوث أزمة فى منزلى، فتفك أزمتى بعد القيام بطقوس الصلاة وكتابة ما فى قلبى». خلال جولتنا فى الدير رصدنا عددًا من رسائل الزوار، التى تدور تفاصيلها حول الدعاء بالشفاء من المرض والحفظ من الشر، والبحث عن الإنجاب والعمل والتوفيق فى المشاريع الخاصة والابتعاد عن الأخطاء والنجاح فى الدراسة، والإقلاع عن شرب السجائر، والرزق، والخطبة والزواج، كما أن بعض الرسائل كتبت باللغة الإنجليزية من الأجانب المترددين على الدير من كل مكان فى العالم. رسائل السماء ومن بين رسائل الزوار التى اطّلعنا عليها كانت كالتالى: «يا رب اشفِ كل مريض ونجحنى فى شغلى وابعتلى العروسة، وابعتلى شقة أعيش فيها»، «يا أبانا أنطونيوس ياحبيبى جيالك بدموع عنيا، اشفى سمير ومتحوجنيش أنا وابنى لحد، واشفى أبويا وأمى وكون معاهم وأخواتى واحفظهم، ساعدنى أشوف أبونا العاز عشان خاطر أم النور». ومن بين الرسائل: «خلى بالك من عيلتى كلها، وخلى بالك من أخواتى كلهم وأصحابى وكل الناس، وخلينا نبطل اللى بنعمله ونتغير للأحسن فى الشغل والفكر وفرحنى، وخلى باسم يبطل سجاير ويبطل الحشيش وكل حاجة تخلى العلاقة حلوة بينا»، «يارب شيل عنا.. وابعد الناس الأشرار عن بابا ويبقى صريح معانا ويعرفنا الموضوع ويتوب ويرجع ليك ويعقل وشيل عنه وعنا يارب، خليك معايا فى مستقبلى واختارلى البنت الصالحة وخليك معايا فى شغلى وأبقى ناجح ولو ليَّا خير فى أبورواش أروح وأبقى ناجح فى شغلى ومميز»، «باسم الأب والابن والروح القدس يارب أرجوك اشفى تيتا سميحة وعمو صبرى وكامل وأم ناجى وكل مريض، يارب أعطِ لمارينا وملاك طفلاً يا رب أعطِ عملاً لمايكل، لتكن إرادتك يا رب». وتضمنت الدعوات أيضًا: «أبونا أنطونيوس، أب هذا الدير وأب كل الرهبان اذكرنى أمام عرش النعمة، أنا آسف لعدم صعودى المغارة عشان رجلى وجعانى، اللهم اشفِ رجلى، واحفظنى من الخطية»، «احفظ بابا وماما ومريم وميرنا ومينا وتخليك مع ماما مريضة وتخفف عن بابا ظروف السجن وأنجح أنا ومريم ومينا»، «بسم الثالوث الأقدس يا رب بشفاعة الأنبا أنطونيوس اذكر عبيدك، جميل عطا أمل وديع بولا وكرلس واقف معاهم فى الامتحانات واذكر عبدك أسامة وديع وسناء وأم عماد»، و«يا رب أنتظر الزوج المناسب لى ولحياتى بعد أن تزوجت جميع بنات البيت»، «يا أنبا أنطونيوس أرجوك تقف مع بابا وتحل مشكلة البيت لأنه تعب وهو اللى بيطلب منك إنك تحلها لأن إن لم تحلها لن تُحَل أبدًا، أرجوك يا قديس حل هذه المشكلة واطلب من الرب الذى أحببته اقف مع أخى بيتر وأعطه حسب احتياجاته وتحافظ على ماما واشفِها، وابعد عنا الشياطين وأفكار الشر ويغفر لى خطاياى الكثيرة جدًا». الأب مينا أحد رهبان الدير قال لنا إن الرسائل من أهم الطقوس التى يحضر إليها الزوار بشكل يومى، فقد يحضر شخص من مسافة بعيدة جدا لترك رسالة له يكتبها بخط يده فى صمت ويضعها فى الصندوق لمساندته والصلاة عليها وسط دعواتنا له بأن يقبلها الله ويستجيب لها. وهو ما أكده «ناجى» شاب عشرينى كان يجلس للصلاة فى كنيسة الأنبا أنطونيوس، قائلا: «كل شخص يحتاج للوجود مع الله بشكل خاص بعيدًا عن عيون البشر، لذلك أحضر نهاية كل عام لقضاء يوم داخل كنائس الدير ووضع رسالة بخط يدى بها أمنياتى ودعواتى للعام الجديد، وجميعها تدور حول الدعوة لأسرتى وحصولى على العمل والزوجة الصالحة فقط». على أبواب الأولياء ومن دير الأنبا أنطونيوس فى البحر الأحمر أقدم دير فى تاريخ البشرية إلى الحسين بالقاهرة الفاطمية الذى يعد أشهر الأماكن التى يتردد عليها المسلمون للدعاء، فزيارات المسجد لا تتوقف منذ فتح أبوابه فى الصباح، والدعوات حول الضريح مختلفة، فالزوار منهم من قرر الدعاء فى صمت وهدوء، ومنهم من كان صوته مختلطًا بالدموع، وكان هناك نوع آخر يكتب دعواته بيده ليرميها داخل الضريح. أم محمد - إحدى العاملات فى المسجد- فى العقد الرابع من العمر، تقول أنها تعمل بالمسجد منذ عشر سنوات، وظاهرة الدعوات المكتوبة موجودة بشكل يومى، فهناك من يحضر لتلك المهمة فقط بعد الصلاة فى المسجد، والنساء أكثر من الرجال فى ظاهرة إلقاء الأمنيات المكتوبة بالمسجد، ومعظم الدعوات لزواج البنات وصلاح الحال والرزق، الجميع يحرص على الحضور، فهناك مرضى يجلسون يومًا كاملاً فى المسجد كنوع من البحث عن الشفاء. وأوضحت أم محمد أن الرسائل تكون كثيرة نهاية كل يوم ونقوم بجمعها ويتم التخلص منها كل أسبوعين أو نهاية شهر، حتى لا تتراكم فى الضريح، مؤكدة أن هناك البعض يحضر ومعه رسائل جاهزة ويحضر دعوات من أشخاص آخرين معه، موضحة أن الأمر منتشر فى المساجد القديمة الشهيرة فى مصر القديمة والأضرحة، ومن أشهرها ضريح الإمام الشافعى الذى يتهافت عليه المئات يوميًا من كل المحافظات. وأحضرت أم محمد نماذج للدعوات وكان نصها كالتالى: «مدد يا سيدى يا حسين، بشفاعتك يا رب اهدى جوزى وامنع طلاقى وقربه منى، أنا جيت من المنيا عشان الدعوة الخالصة»، «يارب بشفاعة آل البيت حبيبك النبى اشفى بنتى سماح ويرزقها بعريس طيب، ووفق جوزى فى شغله»، «يارب جيت لك وأنا كلى شوق لمقام سيدى الشافعى أن تصلح حال بيتى اللى اتحول إلى مشاكل، يارب ابنى يسافر ويرتاح، وبنتى تنجح فى الكلية، وبنتى الكبيرة ربنا يكرمها بالطفل اللى بتستناه من سنين». كما تضمنت الدعوات بالأضرحة: «أنا نورا يا رب أنا كنت مريضة مرض ليس له شفاء وربنا كرمنى وشفيت وفى نعمة كبيرة وحبيت شخص كويس جدًا، لكن كان مريضًا بنفس مرضى وحاليًا هو بين إيديك علاجه محتاج 600 ألف جنيه وحياتى وحياته توقفت على أمر علاجه، نسعى لجمع الفلوس ويتم شفاؤه يارب اشفيه دا كل أملى عايشه عشانه بدموعى بدعيلك يا رب من آل البيت». سر الرسائل المكتوبة أكدت الدكتورة رغدة السعيدة خبيرة العلاقات الإنسانية ولغة الجسد، أن ظاهرة كتابة الأمنيات موجودة منذ فترة طويلة فى طقوس البعض كنموذج للبحث عن تحقيق الأهداف؛ خصوصًا فى الشدة، وأغلب من يلجأ إليها لديه يأس شديد -الغرقان يتعلق فى قشة - وتلك الطريقة تعد طريقة للنجاة، وهذا الشخص لا يفكر فى أى شيء سوى أن يذهب إلى ضريح أو كنيسة ويكتب أمنيته فيستجاب، لكن الله لا يحتاج واسطة للدعاء له فى مكان.