إن الحديث عن حرب أكتوبر انطلاقًا من الحماسة الرومانسية الوطنية وحدها لهو برأيى أكبر غبن يمكن أن يمارسه مصري- مهما بلغت وطنيته- بحق هذه الحقبة المعقدة من تاريخ العسكرية المصرية، ومن تاريخ مصر الحديث ككل! من السهل دومًا نحت العبارات البليغة الرنَّانة واستحضار أساليب الإنشاء الحماسية المراهقة فى معرض الحديث عن نصر 6 أكتوبر الباسل، ومعركة الكرامة، ويوم الانتصار الخالد.. إلخ. هذه التوصيفات التي- على فصاحتها وحسن بيانها- تظل قاصرة عن رصد أهمية هذه الحرب.. تلك الأهمية المجردة بوصفها العسكرى البحت، كمعركة عن الصراع من أجل استرداد الأرض.. ليست الأرض المصرية وحسب، بل كل الأرض العربية المسروقة والمحتلة.. لعل وحدها تفسر سبب هذا التشويه وخلط الأوراق والافتراءات التى مازالت حرب أكتوبر تتعرض لها بعد ما يقترب من نصف قرن على العبور. لعقود الآن لا يمر 6 أكتوبر كل عام هكذا؛ إذ لابد من آن لآخر من «صدور وثيقة» ما أو «ظهور شهادة ما»؛ هذه الوثائق والظهورات والشهادات الموسمية إنما بالمصادفة البحتة لابد أن تؤول أو تشير إلى حقيقة واحدة لا مراء فيها مهما تعددت وتضاربت الجهات التى تنعم علينا كمصريين بإظهارها- ألا وهى أن أى عسكرى مهما كانت رتبته إن قُدِّر له خوض معركة فحتمًا سيؤكد أنه مجرد جزء من عملية كبرى لعله لا يعرف من كل تفاصيلها شيئًا سوى دوره وحسب؛ على هذا الأساس يظل تقييم المهمة ككل لعوامل عدة لا تقف عند شخص بعينه مهما وصلت تراتبيته فى المعركة، لكن مع ذلك تجد من يملك من التبجح ما يؤهله ليحدثك عن «الحقيقة الكاملة لحرب أكتوبر» باعتباره ألمَّ بكل تفصيلة فى حياة كل جندى على الجبهة فى «مصر» و«سوريا» وكل وحدة عسكرية عربية اشتركت فى الهجوم من «الجزائر» حتى «العراق» لمدة 82 يوما هى المدة الكلية التى استغرقتها حرب طرد «إسرائيل» من الأراضى العربية، بعد استمرار العمليات على الجبهة السورية حتى عقب إعلان توقفها على الجبهة المصرية، ولعل المفارقة أنه فى الوقت الذى يتبجح فيه هؤلاء بتلك الحقائق المزعومة يحدثك أقاربك وذووك الذين كنت بعد تحبو بينهم فى هذه الفترة عن أنهم كانوا فى «القاهرة»و«الإسكندرية» بل ومن كان قريبًا منهم من المحافظات الحدودية عن أنه لم «يشعر أن البلد كان فى حالة حرب حتى بعد أن أعلنوا بدء الاشتباكات فى الراديو»!! هؤلاء الأهل الذين كان لهم إخوة وأزواج وأبناء بالفعل على الجبهة لم يلحظوا ثمة تغيرات على نمط الحياة اليومى المعتاد، بينما «إخوانا بتوع النضال فى الخارج» وبعضهم ولد بعد الحرب بعقدين لديه من «المعلومات» و«الحقائق الكاملة» ما يمكنه من أن يمد قدمه فى وجهك بكل وقاحة ليتهم جيشك بالعمالة وقيادتك السياسية بالخيانة وهذه الحرب كلها بالتزوير استنادًا إلى منطق فاسد وتحليلات مستقاة من مؤلفات العدو الذى يعترف بنفسه بأنه حان الوقت للتخلص من عقدة حرب الأيام الستة، والكف عن جلد الذات وتجاوز الصدمة والنظر إلى «أدائه العسكري» آنذاك نظرة أكثر تفاؤلية! ما معنى أن يسعى العدو بكل آلة ممكنة لديه كى يحسَّن صورته الذاتية أمام نفسه وأمام العالم، فى الوقت الذى لا تدخر وسعا - كمنتصر - للحط من قدر انتصارك وتمزيقه إلى حد إنكاره من أساسه، أى دونية وأى ضعة! المضحك أن المنطق الذى يستند إليه هؤلاء الدونيون يلتهم رأسه ذيله، فالحرب قامت كتمثيلية بإذن أمريكا بهدف تحريك مسار القضية وتحويلها إلى ملف سياسى تابع للولايات المتحدة يتحدثون عن نفس ال«أمريكا» التى كانت آنذاك تنكسر أقدامها فعلا فى «فيتنام»، هذه الولاياتالمتحدة التى لم تكن تدرك بعد كيف السبيل للخروج من مستنقعات «سايجون» كانت لتفتح على نفسها جبهة جديدة فى الشرق الأوسط الأوسط لا لشيء إلا لخق ملف سياسى تتابعه واشنطن! ثم إن إسرائيل التى كانت لا تصدق أنها بات لها وجود فى سيناء قررت فجأة الرضوخ بطلب مصرى بخوض حرب مفبركة تشترط مسبقا طردها من سيناء مقابل الاعتراف بها سياسيا لاحقا، على أن تعود بعد هذا الاعتراف المأمول لتحتل سيناء «بعدين»، وبعد أن تنفذ جانبها من المسرحية وتخرج من سيناء «كده وكده»! مع ملاحظة أنه عقب اندلاع الحرب كانت إسرائيل قد صارت على بعد 100 كم فقط من القاهرة لكنها تخلت عن حلمها الوجودى لكن مقابل اعتراف السادات بها فى كامب ديفيد! وفق هذا المنطق أيضا فحرب أكتوبر تدرس فى الخارج باعتبارها هزيمة للجانب المصرى بالنظر إلى خسائر الجانبين، والخسارة الأكبر وفق هذا السيناريو هى خسارة سيناء التى وضعت تحت إمرة قوات دولية وليس سيطرة مصرية، يضحكك أن هذه الآراء النقدية الثورية مثلا لا تجد «غضاضة» فى مقارنة نموذج الهزيمة المصرية وفشل مشروع التحرر المصرى بنموذج التحرر الفيتنامى الناجح من وجهة نظرهم، حسنا، إن قراءة مبتدئة لتاريخ الصراع الفيتنامى - الأمريكى لتخرج منها بعد ملاحظات، أهمها أن أمريكا لم توجه قواتها مطلقا لاحتلال فيتنام الشمالية وإنما اكتفت بقصفها انطلاقا من قواعدها فى «فيتنام الجنوبية» عقب قرار التقسيم الفرنسي، طوال تاريخ الصراع الذى امتد عسكريا لما يقرب من 10 سنوات كان الشعب الأمريكى نفسه ضد سياسة حكومته، وهى مزية أضعفت التحرك الأمريكى بعكس إسرائيل التى قامت على استيطان توسعى يسانده أغلب الإسرائيليين حتى الآن أو على الأقل لا يمانعونه، فيتنام المتنازع عليها وضعت تحت قوات حفظ السلام الدولية قبل أن يخرق الشماليون الاتفاق عقب فضيحة «ووترجيت» وزعزعة الجمهوريين وإدارة نيكسون وارتعاش إدارة جونسون بعدها، الأهم أنه على صعيد الخسائر التى يستندون إليها كمعيار للحكم على النصر والهزيمة، فإن الجانب الفيتنامى تكبد ما يزيد على مليون قتيل على أرضه، وأكثر من 3 ملايين جريح ومعاق ومشوه، فضلا عن أكثر من عشرة ملايين لاجئ ونازح قبل انتصارهم فعليا وتحررهم من الاستعمار الأمريكى وتوحيد الفيتنامين، فيما بلغت الخسائر الأمريكية المعلنة 150 ألف أسير فقط، وأقل من 50 ألف قتيل، فكثرة القتلى أو قلة عددهم ليست دليلا وحيدا ولا حقيقيا على «نجاح» حرب - إن جاز التعبير - فبالنظر إلى عدد سكان إسرائيل لكن آنذاك فمن الطبيعى أن يقل عدد ضحاياها العسكريين بالمقارنة إلى حجم قوتها العسكرية ككل والطبيعى أن يرتفع عدد شهدائنا وأسرانا المصريين بالنظر إلى حجم وحداتنا القتالية وسيما أن الصراع أصلا على الأرض المصرية! أما ما يقال عن عمالة السادات فليس أقل من وضاعة الزعم بأن الشهيد عاطف السادات لم يكن مقررا له المشاركة فى الحرب وأنه فاجأ شقيقه الرئيس بالخروج للضربة الأولى مما أدى إلى استشهاده. قد يقال فى حرب أكتوبر الكثير وقد يقال أكثر نقدا وتعليقا وتفنيدا للعملية السياسية التى أديرت بعد الحرب وبموجبها لكن تظل الحرب أكبر حتى من «صغائر الدفاع عنها» وتظل أول عملية عسكرية ناجحة فى التاريخ العسكرى العربى الحديث، وهى صفعة على وجه الكيان الصهيونى أعقبتها صفعة لا تقل فداحة لما استردت طابا كنتيجة طبيعية لتغير ميزان القوى فى 6 أكتوبر، وبرغم كل شيء هى ركيزة مشوار تحرر طويل تقضى الحتمية التاريخية أن يبدأ وينتهى من القاهرة!