ظلمت أحاديث السياسة وصراعات الحكم، ذلك الجانب الإنسانى من شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ولم يظهر من شخصيته سوى الجانب القاسى والجاف، غير أنه كأى إنسان يحمل فى طيات حياته جوانب كثيرة مضيئة لم يطلع عليها الكثيرون، وربما سقطت من الذاكرة سهوًا أو عن عمد. لا يمكن عند الحديث عن 23 يوليو أن نغفل التطرق إلى شخصية المحرك الأول فى أحداثها، والذى لاتزال صوره ترفع فى المناسبات المختلفة حتى يومنا هذا. لا عجب إذا.. ناصر الذى كان ولايزال أيقونة لدى الكثيرين نحاول أن نغوص فى بعض مما قيل عنه، ولكن ليس كل ما يقال عنه موضع ثقة، لأن الأساس فيمن يكتب عنه.. وخلال هذه السطور سنحاول السير مع رفيقة دربه زوجته تحية كاظم التى اقتربت من الرجل أكثر من غيرها قرابة الثلاثة عقود إلا قليلاً حيث تزوجها ناصر عام 1944 حتى رحيله فى سبتمبر من 1970.. كانت المحاولة الأولى لكتابة تلك الذكريات فى حياته، والثانية بُعيد رحيله، لكنها لم تقو على المواصلة فمزقت ما خطت يدها، حتى كانت المحاولة الثالثة فى الذكرى الثالثة لرحيل «الرئيس» كما كانت تسميه، فكتبت.. بخط يدها! فى مذكراتها تكشف تحية جوانب إنسانية عديدة من حياة الرجل الذى كان ملء السمع والبصر قرابة نصف قرن وأكثر من الزمان.. يضيء كتاب «ذكريات معه» الصادر عن دار الشروق المصرية جوانب إنسانية للزعيم الراحل، الذى كان يفضل أن يخدم نفسه بنفسه، ويرفض أن يقوم بذلك أحد من العساكر الصغار. عبدالناصر الذى كان يعتريه الحزن، عندما يرى على طريق الإسكندرية لافتات تعلن عن ملكيات بمساحات ممتدة للباشاوات والأمراء، معلنًا أنه قريبًا ستنصلح الأمور. رسالة تحية لناصر! بعبارات يعتصرها الألم ودعت «تحية» ناصر قائلة: «زوجى الحبيب، لم تمر على دقائق إلا وأنا حزينة.. وهو أمام عينى فى كل لحظة عشتها معه.. صوته.. صورته المشرقة.. إنسانياته.. كفاحه.. جهاده.. كلامه.. أقواله.. خطبه.. مع الذكريات أبكيه بالدموع أو أختنق بالبكاء. وحتى إذا ضحكت فشعورى بأنى مختنقة بالبكاء مستمر لقد عشت مع جمال عبدالناصر ثمانى سنوات قبل الثورة، وثمانية عشر عامًا بعد قيامها، لقد تزوجنا فى 29 يونيو سنة 1944 أى عشت معه ستة وعشرين عامًا وثلاثة أشهر، فبالنسبة لى الآن أعيش مرحلة ما بعد رحيله. لقد عشت معه مرحلتين قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة وهى التى أعيشها بعد رحيله ولم يرها. آه ما أصعبها.. يالها من مرحلة قاسية من كل الوجوه فراقه وافتقادى له.. لم أفتقد أى شيء إلا هو ولم تهزنى الثمانية عشر عامًا إلا أنه زوجى الحبيب أى لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية. لقد عشت هذه السنين الطويلة قبل رحيل الرئيس، لقد اعتدت أن أقول الرئيس لأنى أشعر أنى لا أستطيع أن أقول غير الرئيس- وسأظل أقولها.. كانت مليئة بالمفاجآت، بل كانت كلها مفاجآت وأحداثا، لكنها بالنسبة لى لم تكن صعبة، بل كنت سعيدة مرحة. قصة اللقاء الأول مع تحية كاظم لزواج جمال من تحية قصة لطيفة بدأت عندما كان يتردد على منزل عائلتها بصحبة عمه وزوجته، التى كانت صديقة مقربة لوالدتها، وكان عبدالناصر صديق أخيها. وعندما قرر عبدالناصر الزواج من تحية أرسل عمه وزوجته لطلب يدها، وكان فى هذا التوقيت برتبة «يوزباشي» ، ولكن شقيقة تحية الكبرى لم تكن قد تزوجت بعد، فطلب عبدالناصر تأجيل الزواج من تحية، حتى يتم زواج الأخت الكبرى، وبالفعل بعد عام من زواجها طلب عبدالناصر عقد قرانه على تحية. رفض شقيق تحية طلب جمال عبدالناصر، وتوفيت والدتها بعدها بشهور قليلة، وأعاد جمال طلبه مرة أخرى، حيث أرسل له شقيقة تحية الكبرى لتطلب زواج جمال من تحية فوافق أخوها، وقال إن جمال صديق قديم وهو أكثر من الأقارب، وتم الزواج فى 29 يونيو 1944. ومن أجمل ما تضمه هذه الذكريات تلك الحميمية التى تتحدث بها تحية عبدالناصر عن منازلها، وهى ثلاثة منازل فى الحقيقة عاشت فيها كل حياتها مع الرئيس، الأول كان قبل قيام الثورة وتصفه حجرة حجرة، وركنا ركنا، بمنتهى الإعزاز، وهو المنزل الذى خرجا منه شبه مطرودين بعد أن أبلغتها صاحبة البيت أثناء غياب جمال فى حرب فلسطين أنها تريد أن تبنى طابقًا آخر فوق مسكنهما. أما المنزل الثانى فقد كان فى كوبرى القبة وبقيا فيه حتى أيام الثورة الأولى، حتى قرر «الرئيس» مغادرته إلى منزل آخر لاعتبارات المنصب حيث لم يعد مناسبًا أن يبقى زعيم الثورة ساكنًا فى مبنى مشترك مع سكان آخرين. والغريب أن أيا من هذه البيوت الثلاثة لم تختره السيدة تحية لكنها أحبتها كلها. إلى منزل الزوجية لم تكن تحية رأت «عش الزوجية» من قبل ولا الفرش أو الجهاز - كما يسمونه - وكان فى الدور الثالث، صعدا معًا السلالم حتى الدور الثانى ثم حملها حتى الدور الثالث.. وكان طابقًا بأكمله، وله ثلاثة أبواب.. باب على اليمين وباب على اليسار وباب على الصالة، الأول يوصل لحجرة السفرة، والثانى لحجرة الجلوس، والثالث.. وهو باب الصالة فى الوسط، والبيت كله مضاء.. مكون من خمس غرف. أمسك جمال بيدها وأدخلها كل حجرات المنزل، وقد أعجبها كل شيء وصرفت فى تأثيث المنزل مما ورثته من أبيها، وكان لا يقارن بثراء أخيها. بدأت تحية حياة سعيدة مع زوجها الحبيب وكانا يعيشان ببساطة بمرتب جمال، وتركت أخاها وثراءه ولم تفتقد أى شيء حتى التليفون وتقول: لم أشعر أن هناك شيئًا ناقصًا ونسيته. تقول تحية: «أول مرة خرجت كان بعد ثلاثة أيام من زواجنا.. ذهبنا للمصور أرمان لنرى بروفة الصور، وكانتا اثنتين قال لى جمال: اختارى التى تعجبك.. واخترت الصورة التى هى معلقة فى صالون المنزل فى منشية البكرى مع صور أولادنا الآن. كانت عائلتى على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التى كانت صديقة لوالدتى، ويقابل شقيقى الثانى، وأحيانًا كان يرانى ويسلم علي. فعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطبانى، وكان وقتها برتبة يوزباشي. كنا فى إجازة طويلة إذ كان جمال يشغل منصب مدرس فى الكلية الحربية.. قال لى إنه سيبدأ المذاكرة فى أول نوفمبر ليحضر لامتحان القبول فى كلية أركان حرب، مكثنا أسبوعين فى القاهرة.. كنا كأى زوجين نخرج ونستقبل الزوار.. أغلبهم من الأقارب يحضرون للتهنئة، ولاحظت أنه يفضل السينما.. وأنا أيضًا أفضلها، بعد أسبوعين سافرنا إلى الإسكندرية ومكثنا هناك أسبوعين. خطابات ناصر العائلية جميعنا نعرف خطابات ناصر السياسية التى كان يرددها دائمًا فى المناسبات السياسية.. ولكن هل يدفعك فضولك لمعرفة الخطابات العائلية التى كان يرسلها ناصر لزوجته تحية..؟ فى خطاب بتاريخ 18 مايو 1948 أثناء سفره فى حرب فلسطين: «أرجو أن تكونى بخير مع الأنجال العزيزات أما أنا فكل شيء يدعو للاطمئنان...». وفى خطاب بتاريخ 22 مايو سنة 1948: «أنا فى أحسن حال ولا يشغلنى سوى راحتكم والاطمئنان عليكم وأرجو أن أراكم قريبًا فى أحسن حال...». وفى خطاب بتاريخ 24 مايو سنة 1948: «أكتب إليك الآن ولا يشغلنى أى شيء سوى راحتكم وأرجو أن تكون شقيقتك قد أحضرت لك شغالة.. أوصيك على هدى ومنى والمحافظة الشديدة عليهما...». وفى خطاب بتاريخ 9 يونية سنة 1948: «إن شاء الله نجتمع قريبًا فى أحسن حال بعد النصر بإذن الله...». تقول تحية: «طلب منى فى خطاب أن أذهب عند أخى وحدد وقتا ليكلمنى بالتليفون، ذهبت بمفردى وتركت هدى ومنى مع شقيقه وانتظرته حتى تكلم.. وسأل عن هدى ومنى وطمأننى، وقال إنه سيكلمنى فى الأسبوع المقبل فى نفس الميعاد.. وذهبت وكلمنى وقال لي: سأكلمك كل أسبوع. ذهبت- كما قال- وانتظرت على التليفون لكنه لم يتكلم.. ثم قال لى فى خطاب إنه لم يجد فرصة ليكلمنى لأنهم لا يمكثون فى مكان، وقال: سأكلمك، وحدد موعدا. ذهبت وانتظرت ولم يتكلم أيضًا هذه المرة، وقال فى خطاب: لم أكلمك نظرًا لانشغالي. وفى خطاب بتاريخ 1948/7/23 قال: «وحشنى منزلنا جدًا وإن شاء الله سأحضر قريبًا.. وبالمناسبة فى يوم 20 رمضان سأحصل على رتبة صاغ».. وفى خطاب آخر قال لى إنه سيأخذ إجازة لمدة ثلاثة أيام.. كانت فرحتى عظيمة.. حضر وكان قد مضى على سفره ثلاثة أشهر ونصف الشهر. كواليس ثورة 1952 كثرت زيارات الضباط لمنزل عبدالناصر، وامتدت الاجتماعات لساعات متأخرة من الليل، وملأت أركانًا كثيرة من البيت مدافع وذخيرة وصناديق ومنشورات حاولت الزوجة أن تهيئ لها مكانًا غير مرئى، استشعرت تحية خطر ما يقوم به الزوج، وحاولت معرفة ماهيته، لكن عبدالناصر طمأنها، ورضيت الزوجة المحبة بذلك، إلى أن اكتمل الأمر فى ليلة ال23 من يوليو عام 1952، حينما حدث الانقلاب العسكرى، وأطاح الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر بالملك فاروق. تسارعت الأحداث عقب الثورة، انتقلت الأسرة إلى مسكن مستقل، تابع للدولة، عليه حراسة، تلقت الزوجة اتصالات من كثيرات، قرينة وزير ما، أو باشا معين، ولم تكن أذنها معتادة تلك الألقاب، أما المكالمة التى أسعدتها حقًا، فكانت من كوكب الشرق: «طلبتنى أم كلثوم، وقالت إنها قابلت البكباشى جمال عبدالناصر أمس فى القيادة، وسألته عنى، وتريد أن تزورنى، فأخذت ميعادًا، وكانت المكالمة التليفونية التى سررت بها وأسعدتني.. وأكثر سيدة فرحت بها وبلقائها فى بيتنا». قامت تحية بما عليها من رسميات، وكانت بجانب زوجها حين تستدعى الحال ذلك، ولكن معظم وقتها انصرف لبيتها، وبدت بعيدة عن دهاليز السياسة، وما يحدث فيها، بل فوجئت بأحداث كثيرة، لكنها كانت بجوار ناصر فى الأوقات الحرجة، خصوصًا فى رحلة علاجه إلى روسيا، وعاشت بعد وفاته تبكيه حتى رحيلها فى عام 1992 فرقدت بجواره فى جامع منشية البكري.