لا يرفض دولة القانون إلا جاهل يريد أن يقر شريعة الغاب، لكن النصوص القانونية لا ينبغى أن تُسلق على عجل خاصة حينما تكون ذات اتصال بالحريات. من هذا المنطلق يجب الاستماع للأصوات التى تحفظت على إقرار البرلمان قانون الجمعيات الأهلية، حتى تكتمل الصورة، فلا يتعرض الأمن القومى لما قد ينعكس عليه سلبًا، أو تفرض قيود على منظمات المجتمع المدنى التى لا يمكن الزعم بأنها جميعها متآمرة وممولة وعميلة. القانون ينظم عمل المؤسسات الأهلية والمنظمات الأجنبية فى مصر ويضع ضوابط لعملية التمويل الأجنبى ليحل محل قانون 84 لعام 2002 المعمول به حاليًا.. هذا هو المعلن، لكن المنظمات جميعها تقريبا أعلنت رفضها له.. وللأمر قصة. ففى سبتمبر الماضى التقت غادة والى وزيرة التضامن الاجتماعى 20 شخصية تمثل منظمات المجتمع المدنى لعرض مسودة القانون عليهم قبل إقرارها، وطالب الحضور منحهم فرصة لدراسة المشروع وتقديم ردود ومقترحات عقب عيد الأضحي، ووافقت الوزيرة على طلبهم إلا أن الحكومة وافقت على القانون قبل انقضاء المهلة.. كأن جلسة الوزيرة لم تكن شيئًا، إلا للزوم الأبهة الصحفية وحتى تقول الحكومة: «إحنا ديمقراطيين وبناقش مشاريع القوانين وكده». القانون يفرض قيودًا على منظمات المجتمع المدنى ويُعرض منظمات قائمة بالفعل لخطر الإغلاق باعتبار أن هناك بنودًا فيه يراها البعض مجحفة تجبر المنظمات على الإغلاق. أولى الملاحظات على القانون الجديد أنه لن يسمح إلا للجمعيات المشهرة فقط بالعمل فى المجال الأهلى والتنموى والحقوقي، وأى منظمة حقوقية أو اجتماعية لن تستطيع العمل دون أن توفق وضعها طبقا للقانون الجديد، ولن تعمل فى أى قضية لها علاقة بحقوق الإنسان، والمؤسسة التى لن تُشهر نفسها ستخضع للعقوبة التى أقرها القانون الحبس من سنة إلى 5 سنوات. ووفق القانون، فإن أى جمعية مشهرة تعقد اتفاقية مع منظمة دولية حول أى قضية، من دون أن تحصل على موافقة اللجنة التنسيقية المكونة من «الداخلية والتضامن والتعاون الدولى والأمن العام»، سيتعرض صاحبها للحبس، ولن يُسمح لأى جمعية أن تجمع تبرعات من الداخل أو الخارج إلا بموافقة الحكومة، وإذا حصلت جمعية على تبرعات لابد أن تضعها فى حسابها فى أحد البنوك، ويتم إبلاغ الحكومة بالمبلغ فى حالة عدم رد الحكومة خلال 30 يومًا لابد من إعادة الأموال إلى مصدرها. مجرد تحفظ البعض على بعض مواد القانون وانتقاده دفع إلى توجيه تهم الرفض بالخيانة والعمالة وتلقى التمويلات دون أدلة واضحة. النائب محمد الغول، وكيل لجنة حقوق الإنسان انتقد هجوم بعض النواب والمنظمات المصرية على القانون وقال إن هدف منتقدى القانون البحث عن مصالحهم الشخصية دون مراعاة الأمن القومى المصري. وأضاف أن المنتفعين والمتباكين على إصداره ليس لهم هدف سوى مصالحهم الشخصية والأموال التى تنفق عليهم من الخارج، وأنهم لا يرغبون فى وجود رقابة حقيقية للدولة على الأموال التى تأتى من الخارج، ولها أهداف مشبوهة والقانون يضبط إيقاع التمويل الأجنبى للجمعيات فى عدة محاور منها مصدر التمويل وأسبابه. أما النائب مصطفى بكرى فاعتبر أن الحملة التى يقودها الاتحاد الأوروبى ضد القانون هدفها ضرب الدولة المصرية فى عمق وأن الحملة الموجهة ضده هدفها دعم من أسماهم بالطابور الخامس ووصفهم بالخنجر فى ظهر الوطن. النائب إيهاب منصور عضو تكتل 25/ 30 الرافض للقانون قال: فوجئنا قبل بدء الجلسة التى أُقر فيها القانون بتوزيع كتيب، عبارة عن تقرير تكميلي، به 23 ملحوظة ونصوص مقترحة وأسباب تعديلات نحو 80 صفحة، ولم يكن من المعقول أن نقرأ ونذاكر قانونا بمثل هذه الأهمية قبل دقائق من مناقشته، التى كانت فى الثالثة مساءً لنفس اليوم. وحينما حاولنا أخذ الكلمة لطرح رؤيتنا حول القانون، تم منعنا من المناقشة وقيل لنا نصا «مش هديكوا الكلمة النهارده». وردًا على القول بأن المستفيدين من القانون الحاصلين على التمويلات قال «منصور»: إن القانون سيئ جدًا»، إن لم يكن أسوأ ما كُتب فى هذا الأمر، لأن مواده تحجم عمل الجمعيات والمؤسسات التى تقدم خدمات للناس وإقراره يعنى موات العمل التطوعي. وأوضح أن المواد السيئة كثيرة، لكن أبرزها ما يتعلق بالعقوبات، حيث نصت مواد العقوبات على الحبس والغرامة، فى حين أن هناك مشروعات أخرى حينما طالبنا بتشديد العقوبة مثل قانون الضريبة المضافة، وزيادة الغرامة على المتهربين كان الرد: «لو زودنا العقوبة القاضى هيميل للبراءة.. متزودش عشان القاضى يقدر يدى عقوبة». وبعيدًا عن رفض القانون ومحاولات شيطنته وأيضا المحاولات المضادة لإظهاره وكأنه نص مقدس تجاهل الطرفان أن هناك من يعتمدون اعتمادًا كليًا على مساعدات منظمات ومؤسسات أصبح يهددها شبح الإغلاق والواضح أن وزارة التضامن لم تستعد لسد الثغرة التى سيخلفها إقرار القانون بإغلاق بعض المنظمات التى كانت تسد التقصير الحكومى فى عدة مجالات منها على سبيل المثال لا الحصر القطاع الصحى فالمنظمات الأهلية هى التى سدت العجز فى نقص الأدوية والأجهزة الطبية بمستشفى أبوالريش وجمعت التبرعات لإنقاذ الأطفال الذين أصبحوا فى غمضة عين قاب قوسين أو أدنى من الموت. ومن القطاع الصحى إلى المساعدات المقدمة من المجتمع المدنى للمتضررين من الكوارث الطبيعية، ولعل آخرها سيولالبحر الأحمر التى ضربت المحافظة، وكالعادة تأخرت الحكومة فى إرسال المساعدات فسبقها المجتمع المدنى وأنقذ الموقف، وكالعادة أيضًا رفع عنها شيئًا من الحرج. وزارة التضامن الاجتماعى لن تستطيع بمفردها أن تسد أمرا بسيطا مثل توفير بطاطين للمحتاجين فى الشوارع أو حتى دار الأيتام والمسنين لتحميهم من برد الشتاء. ميرفت السمان رئيس اتحاد جمعيات ذوى الإعاقة، قالت إن القانون جاء ظالمًا للجمعيات خاصة التى تساعد ذوى الإعاقة، ويحد من حريتها ويقيدها كليًا، باعتباره يُعطى مساحة أكبر من الهيمنة والسيطرة لوزارة التضامن على الجمعيات. وأوضحت أن جمعيات ذوى الإعاقة تواجه فى الأساس مشاكل فى التمويل، وتعانى نقصا فى الموارد، مما يؤثر على توفير الجمعيات للاحتياجات. ربما لن تدرك غادة والى حجم المأساة إلا بعدما تقف عاجزة عن مواجهة أزمات كان هناك من يريحها منها، فتضييق الخناق على مؤسسات مشبوهة لا يستلزم هدم المعبد على كل ساكنيه، فليس الكل خائنًا وأيضًا ليس الكل بريئًا، لكن الأصل فى الناس البراءة إلى أن يثبت العكس. المفارقة أن الذى تقدم بمشروع قانون الجمعيات الأهلية النائب عبدالهادى القصبى شيخ مشايخ الطرق الصوفية الذى كان قد أعلن فى 2011 وقت تهديدات السلفيين بهدم الأضرحة أن جموع الصوفيين سيتصدون لأية محاولات للاعتداء على الأضرحة، ويمكن اعتبار ما قال تحريضا مضادا، يتجاهل مفهوم دولة القانون التى تحمى الجميع. اليوم.. هاهو النائب ذاته يتقدم بالقانون الذى يبدو تحركًا ضد حركة الديمقراطية وربما أيضًا روح القانون، والمؤسف أنه يتبنى خطاب التخويف بصورة مستترة، فإذا بمحاولات وقف هذا القانون بالنسبة إليه مؤامرة تهدف لتحويل مصر إلى حالة أشبه بسوريا والعراق ولا نجد تفسيرًا للاستدعاء غير المبرر لمفهوم السقوط وغياب دولة القانون.. لمجرد رفض قانون نصوصه تضع المزيد من القيود على الحرية.