يستحى تاريخنا من تسجيل لحظات انهيار المحكوم عليهم بالإعدام والجلد فى حادثة دنشواى أثناء تنفيذ العقوبة.. انهيار يجسد شعوراً حاداً بالدونية، أنين وتأوهات لا تليق بالحد الأدنى من الرجولة والنخوة، ولولة من عينة «خلاص والنبى يا أفندى، سماح النوبة دى، آخر مرة مش هعمل كده تانى» (هو أصلا ماعملش أولانى). بعد 35 سنة من حادثة دنشواى ولد الطفل الذى سيبنى إبداعه على قناعة «أذهب إلى الموت بشرف»، وسيصدم العالم لأنه سيكون أول مغنٍ فى التاريخ يحصل على نوبل فى الآداب، الطفل اسمه روبرت ألن زيمرمان وسيشتهر باسم بوب ديلن. صدمة الوسط الثقافى فى حصول ديلان على نوبل فى الآداب أساسها أنه مجرد كاتب أغانٍ ومغنٍ يخاطب عوام جهلة، قطاع بدائى أقل مستوى من متذوقى الشعر والروايات، ثم إن موهبته مهما كانت مميزة وفريدة فهى شعبوية مباشرة تجافى الرمز آخرها (جرامى) أو (أوسكار) أو (جولدن جلوب) ولا يمكن أن ترقى لمستوى نوبل إلا إذا كان الجائزة رفيعة المستوى رهينة توازنات السياسة الأمريكية، وهناك سبب يخصنا نحن الجمهور العربى الذى كان يتمنى فوز الشاعر السورى أدونيس أحد المرشحين بالجائزة هذه المرة. هل ضغطت السياسة الأمريكية لفرض اختيار كاتب الأغانى (بوب ديلان) للفوز بجائزة فى الآداب؟ وهل اختياره تمهيد لدخول أسماء مثل بوب مارلى والبيتلز ومايكل جاكسون وجيمى هندركس وزياد رحبانى قائمة الحاصلين على نوبل ؟ المؤكد أن أمريكا لو ضغطت من أجل فوز أى من أبنائها بالجائزة، فإنها لن تفعل ذلك هذه المرة لأن الأمر يتعلق بالمغنى (بوب ديلان)، فاختياره من قبل الأكاديمية السويدية يضيف نقطة إلى رصيدها فى نفى أى تسييس للجائزة، ذلك أن (ديلان) هو مؤرخ هموم المهمشين و(المعذبين فى أرض الأحلام)، صداع مزمن فى رأس صناع القرار الأمريكى، ناطق باسم مناهضى الحرب، أغنيته blowing in the wind كانت نشيد حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيون وحركة مناهضة حرب فيتنام كى تستطيع أن (تذهب للموت بشرف) فلابد أن تكون إنساناً حراً لا يقبل الإهانة ولا يرضى بالإذلال ولو دفع حياته ثمناً، هذه هى الدعوة التى أطلقها (بول ديلان) بين أغلبية منداسة فى أمريكا (جنة العصابات) ولم تعد قادرة على الحلم : (الشوارع القديمة الفارغة، ميتة لا تصلح للحلم). دعوة انطلقت على خلفية موسيقية تطعم الموسيقى الشعبية الأمريكية (الفولك) بالكانترى والبلوز.. أغانى ديلان ترسم له صورة بيانست شيك يعزف على بيانو كلاسيكيا أكثر شياكة فى العشوائيات لجمهور همجى عايز رقاصة ومزيكا تدغدغ الحواس، المدهش أن هذا الجمهور الهمجى توحد مع أغانى ديلان بما كان كافيا لأن يحد من انتشار سوقية أغانى البوب، صوته رخيم مسكون بالحزن وكلماته تعيد إنتاج هموم وانكسار المواطن الأمريكى بما يجعلها طاقة تدفع فى اتجاه التغير، باع أكثر من 100 مليون اسطوانة فى جميع أنحاء العالم، نال 11 جرامى، وواحدة أوسكار، وواحدة جولدن جلوب. ديلان ابن تجربته، عائلته مضطهدة نزحت من كرواتيا إلى أمريكا وفيها عاش ضمن تجمعات الشوارع الخلفية، المنسيين وهو كان صادقا مع ترجمة عذابات هذه التجمعات البائسة، غنى لهم ولم يغن عليهم أو يستنزف ألمهم، ولو هى بالمعاناة فكان يفترض أن يكون أول مغن يحقق نوبل فى الأدب مصريا، لكنه لم يحدث وصعب جدا أن يحدث، فعندنا المطرب يغنى لأن صوته حلو، لا يهم ماذا يقول، المغنى موظف لا يطبق عليه قانون المعاش، طالما اتعرف سيظل يغنى على الناس لحد ما يموت على أساس أن صوته حلو، دعك من أن حلاوة الصوت نسبية، والقاعدة أن الصوت بما يقول أنه مهما كان جميلا وأخاذا فإن استمراريته مرهونة بصدى تأثيره فى الناس. نحن نغنى للوطن أمر استدعاء ونفاق، نغنى لرومانسية كسولة كدابة لا هى جميلة ولا جذابة، عندنا مطرب الشباب تجاوز 55 سنة ونجم الشباك مسيطر على الشباك لأكثر من 30 سنة، لا أفكار ولا شراكة مطرب يفتش فى كلمات شاعر وموسيقى ملحن على قطع ينفع تتجمع وتتوفق، نحن حتى لسنا بارعين أو صادقين فى تهجين الأغانى. أغانينا داجنة مستأنسة باردة منزوعة الرفض والغضب موافقة وباصمة بالعشرة على أن كل شىء فى ربوع المحروسة جميل ومثالى، تكرس القبح وأن حاولت التحديد فإنها تزايد عليه، وبوب ديلان من فضيل مختلف لا علاقة له بالتطريب والدوران فى متاهات العجز وقلة الحيلة، تربى على أن الأغنية أكثر وسائل الاعتراض تأثيرا وجماهيرية، معارضة القبح أيا كان مجاله، سياسى اجتماعى عاطفى، ديلان طاقة رفض وغضب شعبية هائلة مستمرة فى (الطرق على أبواب الجنة) سعيا وراء حريتها التى تضيق على الأرض، أخذ ولاد الشوارع لمستوى أكثر رقيا وإنسانية: كم من الوفيات يجب أن تحدث قبل أن ندرك إن الكثيرين.. الكثيرين.. قد ماتوا ؟ وكم من القنابل ينبغى أن تقذفها المدافع قبل أن تحظر إلى الأبد؟ لجنة نوبل فى حيثيات اختياره قالت (ديلان خلق تعابير شعرية جديدة فى الأغنية الأمريكية، هو شاعر عظيم بين الناطقين بالإنجليزية). صرح ذات مرة أنه كان يتمنى لو كان موظفا عاديا يعمل كل يوم حتى الساعة الخامسة مساء ثم يعود للبيت وينسى كل شىء، وهذا تصريح مستحيل تسمعه من أحد فنانينا لأنهم بالفعل موظفون، وفى كل مرة يتكلم أحد لا تملك إلا أن تعيد على مسامعه ما غناه ديلان : وكم من المرات يمكن للإنسان أن يدير رأسه.. ويتظاهر بالعمى؟