فى أوائل أبريل من العام 1983 نشرت مجلة «شتيرن» الألمانية حلقات من مذكرات الزعيم النازى، أدولف هتلر، بتحرير الصحافى جيرد هايدامان، وحققت المجلة وقتها أعلى مبيعات للصحف. ولكن سرعان ما تكشف الأمر، أن المذكرات مزيفة! وصنفت هذه الكارثة الصحفية على أنها أكبر فضيحة فى تاريخ الصحافة الألمانية بل والأوروبية ككل. وحكم على أثرها بالسجن أربع سنوات وثمانية أشهر على هايدامان. مصريا تكرر الأمر بشىء من المزاح، وقليل من التفاصيل. فقبل أيام قلائل، خرج صحفيو القاهرة، ومثقفوها يبحثون عن مزاد وهمى لبيع مقتنيات الأديبة اللبنانية مى زيادة، على أثر «تدوينة فيس بوك» كتبها رجل بلا صفة صحفية أو أدبية، ادعى فيها أن مزادا سيقام بعد سويعات قليلة لبيع أوراق وصور نادرة للموناليزا العربية، فحرك العقل الجمعى والغيرة على تراث فريد من جهة، والتفرد بالسبق الصحفى كل صحفيى مصر من جهة أخرى، وتحركت وزارة الثقافة المصرية، وأرسلت مندوبا من دار الكتب والوثائق القومية لقسم شرطة عابدين لتتبع الأمر، وانتظر أدباء لبنان الخبر اليقين، وسارع بعضهم بالسفر للقاهرة لاقتناء ما يمكن اقتناؤه فهو كنز أدبى. وبعد أقل من ساعة واحدة يتم اكتشاف الأمر المكذوب.. أن لا شقة ولا مقتنيات ولا مزاد موجود.. فأين أوراق مى زيادة؟! لم تكن الآنسة مى مريضة عقليا كما ادعى ابن عمها، جوزيف زيادة للحجر عليها، لكن كان بها اضطراب عاطفى من جراء تعدد علاقاتها، فقد كانت تجمع المشاهير حولها كحبات العقد لتتزين من مريديها الذين أظهرت لهم الإعجاب جميعا!!.. وهذا ما اعترف به كل الذين أحاطوا بها: العقاد والرافعى وإسماعيل صبرى، حتى الشيخ مصطفى عبد الرازق لم يسلم من فتنتها، وليس حريا برجل لم ينل امرأة أن قال فيها ما يشاء، فإن كان على عهد أوعشق لها.. تكتم، وحفظ لنفسه جمال الذكريات، فشيمة العاشق الحقيقى ألا يفصح، فالإفصاح نقيصة الذى خاب عشقه فعوضه بثرثرة وأكاذيب، وما أصدق ما كتبه عثمان أمين عنها: «اكتشفتُ أن أجمل ما قيل فى الآنسة مى هو أكذبه». أوراق مى زيادة الشخصية وخطاباتها تظل حديث الأدباء والنقاد على مر العصور لما فيها من أسرار لا تخصها وحدها بل الذين كتبوا لها وكتبت لهم. تستثنى منها خطابات جبران خليل فالحب كان واضحا بينهما، إضافة لخطاباتها إلى أمين الريحانى، وكلا المراسلاتين (جبران والريحانى) نشرتها الصحف اللبنانية، ويحفظها أدباء وصحفيو لبنان عن ظهر قلب، وبين أغلفة كتب كثيرة. والبقية تأتى.. خطابات العقاد أخذها أنيس منصور الذى نشر بعضها، واحتفظ بالبقية - دون نشر- لحفظ أسرار «الرجل والآنسة»، وظلت الخطابات حبيسة الأدراج إلى أن رحل منصور، ولا أحد يعرف أين خبأها؟!.. فتلميذ العقاد النجيب، كتب عن أستاذه كل شىء: فقره.. حزنه.. ضعفه، أما عن نسائه فصمت، أو أشار بالنذر اليسير. مى زيادة كانت فضفاضة فى خطاباتها تكتب كل شىء: الفرح فى سطور، والحزن الذى يسيره الضعف للشكوى والاعتراف، لذا حرص أنطون الجميل على جمع خطاباتها (منها وإليها)، وبقية أوراقها الشخصية الموجودة فى القاهرة، والذى استطاع أن يجمعها بكل ما أوتى من جهد ونفوذ. فكان يدفع المال مقابل أن يقتنى أى شىء شخصى يخص زيادة، حرصا على حفظ أسرار الموارنة، فالصحفى المارونى الذى وكلت إليه تركة «مؤسسة الأهرام» من بعد بشارة جبرائيل تقلا، كان شيخ الموارنة فى عصره واستطاع بنفوذه أن يجنس كثيرين من أصدقائه (من بينهم جد كاتب هذه السطور وعائلته)، وأغلب العائلات المارونية التى هاجرت من لبنان حيث كانوا يأتون إليه طلبا للوساطة والجنسية المصرية، وكان الرجل حريصا على طمس أى شىء يعكر صفو طموحه السياسى، فقبل سنوات من تعيينه فى مجلس الشيوخ حيث تولى رئاسة «الشئون المالية والقانونية»، كان بطرس نيروز غالى رئيسا لوزراء مصر. ومن الحكايات التى تظهر جاه الرجل فى المملكة المصرية أنه كان فى جلسة لمجلس الشيوخ، وأخطأ رئيس الوزراء على ماهر فى نطق كلمة، فقام أنطون باشا من مقعده ليصحح لرئيس الوزراء الكلمة فأشار له ماهر بالجلوس، الأمر الذى اعتبره الجميل إهانة له، فترك المجلس وانصرف. وبعد الجلسة ذهب إليه رئيس الوزراء فى مكتبه بالأهرام ومعه كل وزرائه ليعتذر له. وعلى أثر الحادثة هذه سُئل: ماذا كنت ستفعل إن لم يعتذر لك رئيس الوزراء؟.. فرد قائلا: كنت سأمنع نشر بيانه فى مجلس الشيوخ.. فكيف يجرؤ أحد أن يشير لسيرة مى زيادة وهو على قيد هذا الجاه والنفوذ؟! ولم يكن الرجل يحب مى زيادة بقدر ما هو كان حريصا على حفظ سمعتها التى قد تشوب سمعة الموارنة فى السياسة والسلطة فتشوبه من جراء اعترافات مى لأصدقائها، فأحرق أوراقها التى اقتناها، وهذه الحادثة يعلمها أصدقاؤه المقربون من الموارنة، منهم جد صاحب هذه السطور، وحكايات أخرى شخصية تخص الجميل.