بعيدًا عن التصريحات الرسمية لوزارة الداخلية الوردية بأن السجون المصرية أصبحت «فنادق خمس نجوم»، تأوى المحتجزين والمساجين، فيقضون فترة استجمام، يتمتعون خلالها باليوجا والتأمل وأطيب الطعام.. وبعيدًا عن مبالغات النشطاء بأنها حفرة من حفر الجحيم، لم تتنزل عليها رحمة السماء، تبقى الحقيقة المجردة أن السجون وأماكن الاحتجاز فى مصر دولة مستقلة بذاتها، فخلف القضبان تصبح الكلمة لقانون الغاب، ويغدو البقاء للأقوى. أحد المسجونين السياسيين ممن خرجوا مؤخرًا من حجز المطرية، يروى التفاصيل، فيكشف عن واقع مرير، يختلط فيه أصحاب السابقة الأولى بمعتادى الإجرام، ويتجرع تحت وطأته مراهقون أصعب أنواع التنكيل. يقول: «لغرفة الحجز كبير يحكمها، هو الأكثر إجرامًا وعدد سوابق، يفرض هيمنته على الجميع بالقوة الغاشمة الباطشة، بعد أن يلقن محتجزًا أو اثنين درسًا قاسيًا وعلقة ساخنة، فيعرف الجميع بأن نابه أزرق، ومن ثم يتجنبونه». الأمر كما يرى الناس فى أفلام السينما، لكنه أشد بشاعة ، فالكبير الذى يسمى ب«النبطشى» يفرض قوانين مرعبة، ويطلب إتاوات ويتحكم حتى فى عدد ساعات النوم، والويل كل الويل لمن يخرج عن طوعه. ويضيف: الضباط فى الخارج لا يعرفون شيئًا عما يحدث خلف الأسوار، وحتى لو عرفوا فليس بوسعهم تغيير الواقع، وإذا تجرأ محتجز على الشكاية لهم، سينتهى الأمر بأن يوجهوا كلمتين قاسيتين لتقريع النبطشى، ثم ينصرفوا إلى حال سبيلهم، وبعدها سيكون المشتكى تحت رحمة النبطشى مجددًا، فينكل به بصورة أشد حتى لا يجرؤ أحدهم على فعل فعلته. ويحمل النبطشى عادة أسلحة بيضاء، أما كيف تدخل؟ فهذا سؤال بلا إجابة، وتتدرج تلك الأسلحة من حيث شدة خطورتها، فالبشلة وهى «نصف موس» الأقل خطورة، ثم هناك الملعقة المسننة من الجانبين، وصولاً إلى «القطر» الذى يعد الأكثر تأثيرًا وفتكًا. وينقسم الحجز إلى ثلاثة أماكن، ويتصدره موضع بجوار الباب يسمى «المراية»، يحتله المحتجزون الأشد بأسًا، ومنهم المسجلون معتادو الإجرام، الذين يستضيفهم النبطشى ويحرص على راحتهم ويخصص لهم مسجونًا أقل أهمية لغسيل ملابسهم وتوفير ما يحتاجون من أشياء، وهناك الأثرياء الذين يستأجرون مساحة من المراية بمبالغ تتراوح ما بين ألف إلى ألف وخمسمائة جنيه، مقابل الأماكن المميزة بمساحة متر ونصف المتر، أما من شاء النوم على الأطراف فالإيجار ليس أقل من 500 جنيه. ويعاون «النبطشى» زمرة من عتاة المجرمين، فهم يده القاسية التى «تفرم» كل من يخرج عن سمعه وطاعته، ومنهم من يوفر له الحشيش حتى «يروق المزاج» ومنهم من يعتبرون ممثلين شخصين له، كلمتهم من كلمته، يقضون ويأمرون إذا كان نائمًا مثلاً، ويبلغ عددهم نحو ستة، وينامون أمام الباب. ولا يستطيع المحتجز أن يفرد ظهره إلا إذا كان نائمًا فى «المراية»، ذلك أن المساحة المتوفرة الأخرى، مع تكدس أماكن الاحتجاز تفرض شروطها، ومن ثم فإن هناك المنطقة الواقعة يمين وشمال النمر، والتى تتيح للمحتجز أن يسند ظهره إلى الجدار، ليقعد قعدة أشبه بالقرفصاء، فإيجارها لا يقل عن خمسمائة جنيه، وتبلغ مساحتها «قبضة وشبر»، وهكذا يحقق النبطشى الثروات. وماذا عن الأماكن المجانية؟ ما الوضع بالنسبة لمسجون فقير لا يملك أموالاً؟ إنها القوانين، فمن ليس معه، فليجرب أسوأ أنواع الحياة، ومكانه الجلوس فى منتصف الحجز، لا يستطيع أن يسند ظهره أو رأسه إلى جدار، حوله أطنان من الأجساد وروائح العرق والأمراض الوبائية. المحتجزون سياسيًا، نظرًا لأنهم غير مؤهلين للتعامل مع هذه الظروف، يلجأون فى الأغلب إلى الاستئجار، وأحيانًا يجرون استفتاءً لاختيار متحدث باسمهم يتفاوض مع النبطشى ويعقد معاهدات السلام! ويضم الحجز مراهقين، وهؤلاء فى الأغلب ممن قبض عليهم أثناء الاشتراك فى مظاهرات، وإذا كان هؤلاء من أسر فقيرة لا يقدرون على سداد الإيجار، فإنهم يعاملون معاملة الخدم، ويصبحون «ملطشة» لعتاة المجرمين. ذكر «سعد الدين إبراهيم» مدير مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية، والناشط بمجال حقوق الإنسان، أن أبشع أماكن الحجز للمساجين هى الأقسام ومراكز الشرطة، لافتًا إلى أنها أماكن ضيقة جدًا، مما يؤدى إلى انتشار الأمراض والعنف الذى قد يؤدى للوفاة. وبعد قرار النائب العام الراحل هشام بركات، عمل زيارة مفاجئة لأقسام الشرطة فى عدد من المحافظات كشفت تقارير النيابة العامة عن وجود مخالفات بالجملة، وبدأت النيابة العامة التحقيقات فى تلك المخالفات فورًا، واستدعاء عدد من مأمورى الأقسام للتحقيق معهم. ففى قسم شرطة المطرية فى شهر فبراير الماضى فى يومين متتالين شهد القسم ثلاث حالات وفاة تدور الشبهات حول أنها نجمت عن تعذيب أفضى إلى الموت، أولها للشاب إبراهيم محمود الذى كان محتجزًا بالقسم بتهمة حيازة مواد مخدرة ثم حالة الشاب عماد أحمد العطار الذى توفى بالحجز والثالثة كانت للمحامى كريم حمدى والمتهم بقتله اثنين من ضباط الأمن الوطنى. وفى قسم البدرشين، تبين أيضًا وجود زيادة فى أعداد المحتجزين، التى تبين تكرارها فى جميع الأقسام وهى ضيق مساحة الحجز، ووجود زيادة فى أعداد المتهمين، فضلاً عن عدم وجود حجز منفصل للسيدات فى كثير من أماكن الحجز بعدد من الأقسام. وفى التقارير الطبية الصادرة عن مصلحة الطب الشرعى تأكد وصول عدد حالات الوفاة إلى 90 حالة داخل مقار الاحتجاز فى أقسام ومراكز الشرطة فى القاهرة والجيزة خلال عام 2014 وقد سجل قسم المطرية 8 حالات وفاة والبساتين 6 حالات، وفى الخليفة خمس حالات، بزيادة 25 حالة على عام ،2013 وقد أرجعت أسباب الوفاة إلى حالات مرضية وسوء التهوية فى أماكن الاحتجاز.∎