بعد يومين عصيبين قضتهما «شاغلة الدنيا» أو «سيدة المطار» ياسمين النرش فى سجن القناطر، بدأت المرأة التى صالت وجالت وهددت وتوعدت الضباط فى مطار القاهرة بالويل والثبور عظائم الأمور، بدأت تتعامل مع الحقائق وتتعايش مع الحياة خلف القضبان، لكنها رغم السجن رفضت التخلى عن بعض الطقوس المخملية، وأصرت على إدخال مستلزمات شخصية «تتصبر» بها على الأيام الصعبة. فى الليلة الأولى أصيبت «النرش» بصدمة عصبية عقدت لسانها، حيث لم تبد أى استجابة إزاء أى مؤثرات خارجية، وكانت عيناها تجولان فى المكان، وترتسم على ملامحها علامات الرعب والخوف والذهول. لدى اقتيادها إلى زنزانتها، أرسلت «النرش» نظرة استعطاف إلى شرطية كانت تصطحبها، ثم سألتها بصوت مرتعش من شدة الخوف: «أنا رايحة على فين»؟ فأجابت: على زنزانة المتهمات بقضايا المخدرات. عندئذ صرخت «النرش»: حرام عليكم.. فقالت الشرطية: هذه أقل الزنازين كثافة عددية، فاحمدى ربنا، أنت فى السجن، وهنا ليس عندنا خيار أو فاقوس. واستسلمت «النرش» إلى قدرها، ومضت تجر رجليها الثقيلتين إلى الزنزانة، وعيناها تمتلآن توترا وقلقا، لكنها حاولت أن تبدو متماسكة، فى محاولة للتغطية على ضعفها الداخلى. تعالى يا متهمة.. هتفت سجانة ذات ملامح قاسية فى وجه «النرش»، فتوجهت إليها: «نعم عايزه إيه منى»؟ فأجابت: ولا حاجة بس أحط لك بودرة ضد الالتهابات والأمراض الجلدية، فما كان من «النرش» إلا أن دخلت حالة من الصراخ الهستيرى، وأخذت تقفز كالمجنونة فى مكانها، وهى تهذى بكلمات غير مفهومة، ثم نزلت من عينيها دموع قبل أن تقول: حرام عليكم.. عايزين تموتونى ليه، أنا بنت ناس وعمرى ما شفت البهدلة. السجانة ذات الملامح الغليظة قالت بصوت هادئ: شوفى البودرة دى عشان تحميكى من الأمراض الجلدية.. مش عايزة ممكن تتعدى بالجرب، عندئذ رضخت «النرش» للأمر الواقع، لكنها صممت على ألا تضع البودرة إلا على ذراعيها، ما دعا السجانة إلى أن «تمصمص شفتيها»، ثم تقول: خلاص براحتك وماله! فى الدهليز إلى الزنزانة غرقت ياسمين النرش فى صمت عميق، ولما انفتح باب الزنزانة وضعت المتهمة يدها على قلبها، وأخذت شفتاها تتحركان بما يبدو أنه آيات قرآنية. دخلت الزنزانة، ثم أسندت وجهها إلى القضبان، وسحبت عدة أنفاس عميقة سريعة متلاحقة، كأنها تحاول أن تملأ رئتيها من الهواء خارج الزنزانة، ومكثت على هذا النحو لمدة نحو نصف الساعة، قبل أن تختار ركنا ركينا فى الزنزانة جلست فيه القرفصاء، ثم انهارت باكية، ما جعل إحدى السجينات تقترب منها قائلة: ما تخافيش يا حلوة، فنظرت إليها، ثم واصلت البكاء. فى اليوم التالى كانت «النرش» أولى السجينات خروجا إلى التريض، وفى فناء السجن جلست شاردة، ثم أمسكت عصا وأخذت تنقش رسوما على التراب، كأنها تريد تصوير أحلامها الضائعة أو تحاول أن تروى للرمال قصتها من وجهة نظرها بالطبع. ومع انتهاء الفترة المخصصة للتريض، توجهت شرطية إلى «النرش» لتخبرها بصرامة أن عليها العودة إلى الزنزانة فأجابت باستكانة: حاضر، تحت أمر سيادتك. عندما عادت «النرش» إلى الزنزانة، كان الهدوء قد بدأ يتسرب إلى نفسها، إلى درجة أنها بدأت «تدردش» مع السجينات، وعرضت عليهن استخدام بعض مستلزماتها مثل أدوية الصداع والمناديل المعقمة. فى اليوم التالى كان الارتياح باديا على وجه «النرش» بعدما حظيت بقسط معقول من النوم، حيث خرجت إلى نزهة التريض وبين يديها زجاجة مياه معدنية، وأيضا فوطة مبللة حرصت على أن تمسح بها وجهها من العرق من وقت إلى آخر، كما حملت مناديل معطرة مسحت بها كفيها بعد أن ركضت نحو عشر دقائق فى فناء السجن. وسمحت إدارة سجن القناطر للنرش بإدخال بعض المستلزمات الشخصية، منها المياه المعدنية والمناديل المعطرة ودواء أمريكى للصداع اسمه التجارى «آدفيل ليكوجل»، وهو مسكن للصداع وآلام الأسنان أيضا. صباح الجمعة كانت «النرش» قد بدأت التفكير فى الوسيلة التى يمكن أن تلجأ إليها للخروج من مأزقها، حيث توددت إلى شرطية برتبة مقدم، ثم فتحت معها حوارا أكدت فيه أنها كانت متوترة فى المطار لأن ابنتها «وحشتها»، ثم سألتها عن موقفها القانونى فى حال نجحت أسرتها فى إقناع الضابط بالتنازل عن البلاغ ضدها، لكن الضابطة لم تستجب لها واكتفت بالقول: «بوسعك أن تستفسرى من محاميك». وأصرت «النرش» على نفى تهمة حملها مخدر الحشيش، وأكدت لسجينة أصبحت مقربة إليها أنها من أسرة ثرية و«بنت ناس»، ولا يمكن أن تتاجر فى المخدرات أو تتعاطاها. وتساءلت «النرش» عن قوانين الزيارة وعما إذا كان ممكنا أن تحظى بزيارات استثنائية من ذويها، لكن إدارة السجن أبلغتها بأن القوانين تطبق على كل النزيلات من دون استثناء. وحتى تتخلص من روائح عرق السجينات تحرص «النرش» على رش معطر الجو فى الزنزانة، الأمر الذى يجعل الروائح تفوح لتصل إلى الطرقات الخارجية، كما طلبت مسحوق غسيل لتغسل البطانية التى تنام عليها، وهو الأمر الذى لم ترفضه إدارة سجن القناطر على اعتبار أنه ليس ضد لوائح السجون.∎