بالتأكيد ذاكرتنا جميعا اتسعت لتحتفظ بمكانة فريدة لإحدى روائع السينما العالمية فيلم (نضال الأبطال) الذى يحكى عن (مدافع نافارون) حيث تم الاستعانة بمجموعة من المساجين للقيام بعملية انتحارية ومهمة شبه مستحيلة ضد القوات النازية..بعد هذا الفيلم وكنا فى نهاية الستينيات وجدت أن فكرة الفيلم قد انتشرت بشكل عجيب داخل سجن ليمان طرة، وردد البعض كلمات عن استعدادهم للتطوع من أجل القيام بعمليات انتحارية وفدائية خلف خطوط العدو الإسرائيلى. ولكن الأعجب من ذلك كله أننا فوجئنا ذات صباح بعناصر من إحدى الجهات الأمنية الرفيعة فى زيارة للسجن وطلبوا الملفات الخاصة بالمساجين الذين تنحصر تهمهم فى قضايا بعينها.. مثل الشرف أو الدفاع عن النفس أو العرض أو الثار ، وبالفعل وضعنا الملفات بين أيديهم.. ولا أدرى كيف تسرب الخبر إلى داخل العنابر ، فإذا بالمساجين يمنون النفس بالخروج من هذا السجن إلى حيث الحرية حتى ولو كانت للحظات معدودة يمكن أن تنتهى بالموت المحقق.. وبعد فترة ليست بالقليلة حضرت إلى السجن سيارة داخلها عناصر من القوات المسلحة برتب مختلفة واختاروا المحكوم عليهم فى هذه القضايا من أول عشر سنوات وحتى أحكام بالمؤبد، وعقدوا جلسات مع المساجين المختارين ثم صحبوهم إلى ميدان للتدريب قريب من السجن، وأعقب ذلك مجىء بعض رجال الصاعقة بوقارهم وجديتهم المعهودة، وبدأت عمليات التدريب تأخذ شكلا جديا،وبالتالى بدت علامات التغيير الرهيبة تبدو على هؤلاء المساجين.. ففى السجن دائما ما تلمس نظرة انكسار فى عيون المساجين ، وهذه الصفة أيضا تندرج على أصواتهم فتجدها خافتة هادئة ونبرات لا يمكن أن ترتفع إلا بناء على أوامر من الضباط.. ولكن بعد أن تمرس هؤلاء المساجين على تدريبات الصاعقة العنيفة ، وتم بث روح القوة والعنفوان داخلهم تبدلت أحوالهم وارتفعت قامتهم وعلت أصواتهم وشعروا أنهم تحولوا من مساجين إلى أبطال وأن أهل مصر أجمعين سوف يرددون بطولاتهم ويخلدون أعمالهم ويطلقون أسماءهم على الشوارع.. صحيح ما أبعد الفارق بين ما كان وما هو كائن اليوم.. وبالطبع لم نستطع كضباط وعاملين بالسجن أن نفسد على هؤلاء المساجين فرحتهم فتركناهم يعيشون لحظة سعادة غامرة مادام أنهم لم يخالفوا لوائح أو يكسروا قوانين، ومرت بهم الأيام وظهرت حتى على أجسامهم وليس نفسيتهم فقط تغييرات رهيبة فقد أصبحوا خلال فترة قصيرة أشبه بلاعبى كمال الأجسام، وكانوا أثناء التريض يقومون باستعراضات عسكرية فيستعيدون نفس الحركات التى تعلموها فى مهاجمة الخصم وكيفية القضاء عليه، وأيضا الدفاع عن النفس، وبالطبع نالت هذه الفنون إعجاب غيرهم من الزملاء الذين لعنوا حظهم العاثر لأنهم لم يكونوا ضمن المجموعة التى وقع عليها الاختيار، خصوصا أن افراد هذه المجموعة بدأوا فى حكاية ما سوف يقومون به من مهام للزملاء.. فأحدهم يحكى عن مهمة خلف خطوط الأعداء وآخر يكشف عن دوره فى عملية التمويه والقضاء على حراس أحد المواقع المنيعة،والبعض الآخر يسرح بخياله فشرح كيف أنه سيقوم بتدمير كتيبة كاملة من أفراد العدو وظل الحال على ما هو عليه.. أفراد من الصاعقة يصلون فى الصباح الباكر يقومون بجمع المساجين الذين وقع عليهم الاختيار ويتجهون إلى حيث موقع التدريب القريب من السجن وتطور الأمر بعد ذلك ليتم التدريب على استخدام السلاح الأبيض ، وبالطبع بعد ذلك استخدام الأسلحة النارية وهو الأمر الذى تسبب فى حالة هوس وجنون بين فريق المساجين ، فالسلاح متوفر فقط فى أيدى الحراس ، وهو مصوب دائما نحو المسجون الذى يفكر فى الهروب أو اعتلاء الأسوار ، ولكن أن يتحول فجأة هذا المسجون ليمسك هو شخصيا بالسلاح ويستخدمه أيضا فقد كانت نقلة بالنسبة إليهم لم يستطع أحد منهم أن يستوعبها، وبالتالى تطورت مع التدريبات أيضا الحكاوى فكانوا يتحدثون عن براعة لم تحدث فى تاريخ البشرية ، وكيف أنهم بلغوا مرحلة الاحتراف وتجد الواحد منهم يقول إنه يستطيع أن يقتل (دبانة) على بعد كيلو وأن نسبة النيشان بلغت 200٪ وبالطبع كنا نستمع إلى هذه المبالغات ولا نعلق عليها، وفى هذه الفترة كانت تجربتى بالسجون حديثة، ولكنى علمت بعد ذلك أن هناك تنسيقا جرى بين مصلحة السجون وإدارة السجن وأيضا جهات أخرى من بينها الجهات القضائية والنيابة العامة، وعندما اتسعت الجبهات التى لديها علم بما يجرى من تجنيد مساجين للقيام بمهمة عسكرية انتحارية حدث أن تم تصعيد الأمر إلى القيادة السياسية وعلى رأسها الرئيس جمال عبدالناصر، وقد استمعنا إلى بعض الحكايات وقد نسب البعض الفكرة من أساسها إلى أحد كبار القادة فى القوات المسلحة وهو من الرجال الذين أحدثوا تغييرا رهيبا فى إعادة هيكلة القوات المسلحة بعد أن تعرضت لنكسة 1967،ولكن الذى حدث أن الأمر واجه اعتراضا حادا من قبل الرئيس جمال عبدالناصر الذى استدعى قيادات كبرى فى الجيش وقال أمامهم: إن هذا الأمر مرفوض تماما.. لأنه من غير المعقول ولا المقبول أن نساوم إنسانا على حريته وحتى ولو كان مجرما، وأضاف الرئيس: أن أرض مصر لا يحررها سوى الأحرار من أبناء مصر.. والحقيقة أن كلمات الرئيس عبدالناصر عندما بلغتنا كان لها أثر مختلف ، ففى أوساط هؤلاء المساجين الذين تدربوا وأجهدوا أنفسهم وغرقوا فى أحلام اليقظة.. هؤلاء أفاقوا على كابوس مرعب فقد تبددت كل أحلامهم وأستطيع أن أؤكد أنهم عادوا أسوأ مما كانوا فقد ذهبت عدة أحلام وتبددت فى الهواء، أولها حلم الحرية والخروج من السجن وثانيها حلم البطولة المنتظرة وتحقيق نصر على العدو الذى أوقع بنا هزيمة منكرة وثالثها نظرة بقية المساجين إليهم وهى نظرات شماتة لحقتها تعليقات ساخرة. لم يستطع هؤلاء المساجين المساكين أن يحتملوها ولكن نفس هذا القرار استقبلناه فى إدارة السجن ورؤوسنا ترتفع فى السماء وشعرنا بالفخر.. فمصر لا يحررها إلا أبناء مصر الأحرار.. سلمت أيها الزعيم العظيم.. وبالتأكيد كان علينا أن نقوم بمهمة تجاه هؤلاء وهى أن نؤهلهم لتجاوز ما حدث وقد بلغنا مرحلة طيبة بالفعل فى أداء هذه المهمة حتى تم استدعائى من قبل إدارة السجن ذات يوم لأمر مهم وعاجل ، وبالطبع نفذت الأمر على الفور.. فوجدت أن هناك أوامر عليا وقرارا يحتوى عبارات اعتبرتها مهينة.. يتضمن النقل (فورا) من سجن ليمان طرة إلى سجن القناطر الخيرية ، ولم أعلم السبب الحقيقى وراء هذا القرار المستعجل، البعض صارحنى بأن ما تصورت أنه سند لى وظهر يحمينى تحول إلى سلاح ذى حدين وأن الحد العكسى هو ما تغلب فى نهاية المطاف، فقد كان لمنصب والدى رحمه الله فى المؤسسة العسكرية فى ذلك الوقت أثر سلبى على تواجدى فى سجن ليمان طرة، ولكنى لم أصدق هذا الكلام أو قل لم أرغب فى تصديقه ووجدت داخلى ثورة تنفجر، وهذا الأمر عكس طبيعتى تماما وطلبت قبل أن أنصاع لأوامر النقل أن أقابل السيد الوزير شعراوى جمعة من أجل التظلم أمام سيادته شخصيا ومعرفة الأسباب الحقيقية التى أدت إلى استبعادى من سجن ليمان طرة.. ولعبت برأسى الظنون وتصورت أن العملية الانتحارية التى لم يكتب لها النجاح أو الاكتمال هى السبب الرئيسى فى نقلى، أو على ما يبدو أننى أصبحت أعلم أكثر مما ينبغى لى ، فتقرر نقلى والشىء المريب أن المساجين علموا أيضا بهذا القرار فبعد صدوره بأيام قليلة انتشر فى كل مكان فى السجن ، فأخذ كل واحد من هؤلاء المساجين والسجانين يفبرك روايته الخاصة وكنت أعيش هذه اللحظات وكأننى ممسك بالجمر فى يدى ،احتملت كما من القصص والحواديت ما أنزل الله بها من سلطان وانتظرت أن يأتى الفرج بالموافقة على طلبى لقاء الرجل الوالد الإنسان شعراوى جمعة حتى أقطع الشك باليقين، وقد كان رحيما رءوفا بجميع العاملين بوزارة الداخلية،ولكنى شعرت بأن لى منزلة خاصة لسبب بسيط للغاية والذى شجعنى على طلب مقابلة الوزير أن السيد شعراوى جمعة كان يعمل مع والدى فى المنطقة العسكرية بالسويس، وبالفعل أخبرونى بأن السيد الوزير وافق على طلبى وتم تحديد موعد للقاء وبمجرد دخولى على الوزير فى مكتبه بادرنى بقوله:إيه يا سرساوى اللى مزعلك ده أنت من الضباط الممتازين.. وعلى فكرة عملية النقل دى فيها حماية لك حتى لا يورطك أحد أو يستغل أحدهم أى تصرف غير مقصود ممكن يهدد مستقبلك وساعتها لن يستطيع أى إنسان أن يساعدك.. أنت لسه صغير ومش قد الناس إللى موجودة فى طرة دى، ونصيحة أبوية روح نفذ النقل وأى مشكلة أسرية حتقابلك. أعدك بحلها على الفور! فى الحقيقة السيد الوزير لم يمنحنى أى فرصة لعرض مشكلتى فقد كان على علم بمحتوى الخطاب الذى أرسلته وكان كلامه لى مجرد رد اعتبار. وفى نهاية المقابلة قال: سوف يتم تدبير سكن خاص لك ولأسرتك بمنطقة سجن القناطر. وبالفعل فقد أخطرنى السيد اللواء عباس قطب الغايش مدير مصلحة السجون فى ذلك الوقت أن السيد الوزير أمر أن يحول مقر نادى ضباط منطقة سجون القناطر إلى سكن خاص وأمر أيضا بعمل كل ما يلزم من أجل توفير سكن لائق لى وللأسرة، وبعد أن زرت مقر سكنى الجديد ارتفعت روحى المعنوية إلى السماء وأقبلت على العمل بحماس منقطع النظير وقد لمست من قياداتى الجديدة روح المودة والألفة وعلى رأسهم المقدم محمد صبحى الذى خصنى بثقته وكان بمثابة الأب الروحى. فى البداية كان لابد من التعرف على المكان وكان للحق ذا خصوصية فريدة من نوعها.. فهناك سجن للرجال وآخر مقابل للنساء والمنطقة تقع على رأس مثلث دلتا مصر بين قناطر فرع دمياط وقناطر فرع رشيد. وهى مساحة خضراء مليئة بالمتنزهات والحدائق، فيها حدائق غناء هى مقصد الأسر المصرية فى الأعياد والمناسبات وعلى مرمى البصر تجد أسوار السجن بحراسه المدججين بالسلاح وشبابيك الزنازين والتى أحيانا ما يصعد إليها المساجين وهم يستمتعون بالحرية بحاسة واحدة فقط وهى أبصارهم.. بينما يمنون النفس بأن يجىء اليوم الذى يصبحون فيه على الجانب الآخر.. وعندما بدأت أقرأ الملفات وأتحرى عن نوعية المساجين اكتشفت فروقا أخرى بين سجن ليمان طرة.. وسجن القناطر الخيرية.. فمنطقة طرة خاصة الليمان.. ينزلها المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤقتة والمؤبدة والأحكام الصادرة فى الجنايات أى التى تزيد فيها الأحكام على الثلاث سنوات.. أما فى سجن القناطر الخيرية فهو سجن عمومى مخصص للمسجونين المحكوم عليهم فى عقوبات حدها الأقصى ثلاث سنوات ، فأقل فى الجنح، أو من قضوا ثلث العقوبة فى الليمانات وكان سلوكهم حسنا فيتم فى هذه الحالة نقلهم للسجن العمومى كنوع من الثواب عن حسن السير والسلوك.. أو أن يكون السجن قريبا من محل إقامتهم فيتم نقلهم إليه فيما تبقى من مدة تسهيلا على ذويهم فى مسألة الزيارة.. ويضاف إلى هؤلاء الحالات الخاصة التى تراها الوزارة مثل المحكوم عليهم فى قضايا سياسية أو الصادر بحقهم قرار تحفظ أو حبس احتياطى وهؤلاء يتم تخصيص أقسام منعزلة لهم لفصلهم عن بقية المحكوم عليهم. وفى هذه المنطقة التى تشبه القرية المصرية أمضيت عشر سنوات هى بلا شك من أنضج سنوات العمر وأجملها أيضا،فيها قابلت عقولا مصرية منيرة وأسماء لامعة فى عالم الصحافة والأدب وفيها أيضا، وهنا الشىء العجيب - توليت مسئوليتى فى سجن الرجال وتم تكليفى بمهمة مأمور سجن النساء، وذلك عندما تتم الاستعانة بالمأمور الأصلى السيد المقدم إبراهيم، ويا سبحان الله فى كل مرة يذهب المقدم إبراهيم فى مأمورية وأتسلم موقعه.. لابد أن يكون هناك حادث له وزنه.. وكانت أولى الحوادث التى واجهتنى فى أول مهمة لى فى سجن القناطر الخيرية للنساء هى استقبال الطلبة والطالبات الذين تم القبض عليهم فى أحداث ما عرف بعام الضباب سنة 1972 وفيهم كانت السيدة سحر الصاوى والسيدة صافيناز كاظم وهى لم تكن ضمن الطلبة ولكن تصادف القبض عليها مع الطلبة الذين اشتبكوا مع الأمن واعترضوا على مماطلة السادات فى تحرير الأرض ووعوده التى لم تتحقق. ففى عام 1971 كان المفترض أن يكون هو عام الحسم ولكن لم يتم حسم أى شىء وجاء عام 1972 وقال السادات إن الرؤية ضبابية وأنه لا يمكن أن يقوم بالحرب فى هذا العام، وخرجت إلى النور أشعار أحمد فؤاد نجم وألحان وغناء الشيخ إمام وكانت أهمها: «الجدع.. جدع.. والجبان.. جبان» وساهمت هذه الأغانى فى إشعال ثورة الطلبة، والمعروف أن الطلبة هم الفتيل الذى من الممكن أن يفجر قنبلة شعبية لا يمكن للنظام أن يحتملها، ومن هنا كان لابد وبعد أن تعذر الحسم على الجبهة أن يتم الحسم على جبهة الداخل حتى لا تتطور الأحداث وتدخل البلاد فى فوضى، وما أغرب الأحداث التى مرت بى فى سجن القناطر.. وعلى وجه الخصوص سجن النساء الذى تحكمه قوانين وأعراف ولوائح مصلحة السجون ولكن فى المقابل.. هناك قواعد وأصول أيضا يضعها المساجين داخله، وهنا لابد أن يحدث صدام بين كل مأمور جديد يسعى لتطبيق قوانين المصلحة فى حين أن السجينات يسعين بما لديهن من نفوذ لبسط سلطتهن فى مواجهة سلطة المأمور.