فى مصر المحروسة زمان كان كل شئ بالقانون وبرخصة حتى يكون تنظيم العمل هو أساس العلاقة بين الوطن والمواطن. لو فوجئت الآن بأن الدولة تصدر قانونا بضرورة استخراج رخصة سير للحمار أو الجمل، كيف سيكون رد فعلك؟! أكيد ستصاب بنوبة هستيرية من الضحك، وستطلق النكات والقفشات الساخرة من هذا القرار.. ولكن هذا ماكان يحدث بالفعل فى «مصر المحروسة» منذ أكثر من 170 سنة حسب المقتنيات النادرة التى أحتفظ بها وتلخص زمن الحياة الهادئة المستقرة المنظمة.
الرخص التى كانت تصدر وقتها كانت تخضع لشروط صارمة حيث لامجال للمحسوبية أو الوساطة، فمن يستخرج رخصة لابد أن يكون ممن يستحقونها بالفعل، وأن يخضع لاختبارات قاسية من أجل الحصول عليها.
تلك الفترة شهدت انتشار العبيد والجوارى وبشأنهم صدر نوعان من التراخيص واحدة تخص مرورهم بالشوارع والمدن والمحافظات والأخرى تخص عتقهم، وحصولهم على حريتهم، فرخصة المرور كانت تصدر تحت اسم «تذكرة مرور داخلية» وهى أشبه بالجدول المقسم إلى خانات وفيما يتعلق بالرخصة الموجودة ضمن مقتنياتى.. كتب فيها «1» نفر، السن «22» الاسم «حليمة الجارية»، تعلق - أى تخص - الشيخ «إبراهيم المغربى باشا»، وصفتها «جارية سوداء» ومواصفاتها «أوسط القامة، سوداء اللون، مفتوح الحواجب» وكتب فى الملاحظات: تعتمد هذه التذكرة باسم الجارية المذكورة بتوجهها إلى طنطا لبيعها مع سيدها الشيخ « إبراهيم المغربى باشا» وصرح من أجل هذا لعدم المعارضة.. هذه الوثيقة تعد من أقدم الوثائق وصدرت عام 1263 ولكن بالتقويم الهجرى - 1840م - حيث إن الوثائق والمستندات الرسمية كانت تحرر هجريا قبل أن يكون التقويم الميلادى هو الرسمى. الوثيقة الأخرى الخاصة بالعبيد صدرت بالتاريخين الهجرى والميلادى.
وتسمى «تذكرة حرية» الوثيقة التى لدى تحمل اسم «بطرس حنا»، الجنس «حبشى»، البلد «جوندر»، السن «22» «الأوصاف» طويل القامة، نحيف الجسم، مفتوح اللون قليلاً، عسلى العينين، طويل الأنف، متوسط الشفتين، بوجهه جدرى، بشنب صغير،على كل من يديه دق أخضر» والتذكرة كما كتب فيها: صادرة من قلم عتق الرقيق بالإسكندرية باسم «بطرس حنا الحبشى» المشروح أعلاه، المحضر بواسطة بطركخانة الأقباط الموضح واقعته بالسجل المعد لذلك، وتحررت هذه التذكرة لاعتماد حريته كسائر الأحرار وأن يكون له ولاية أمرنفسه كيف سار بلا قيد ولا شرط.. تحريرا فى 6 جمادى أول عام 1299 هجرية - 25مارث - كانت السين فى مارس تكتب بالثاء - عام 1882 ميلادية.
رخص الحمير والجمال صدرت عام 1875 ويحدد فيها خط سير الدابة وعليها صورة الدابة، ففى رخصة الحمار التى من ضمن مقتنياتى ما تخص «اسماعيل باشا صدقى» وهو والد «اسماعيل باشا صدقى» الذى تولى رئاسة الوزراء فى عهد الملك فؤاد الأول والمولود فى نفس العام الذى صدرت فيه الرخصة، وكذلك عربته ذات الأربع عجلات بحصانين والمدون فيهما.. «رخصة من ديوان البلدية بمصر عن سنة 75 عن حمار ركوب ملك حضرة «اسماعيل باشا صدقى» ليمر بدون مانع على مراكز الدخولية وشوارع المحروسة»، وهى نفس الصيغة التى كتبت للعربة ذات الأربعة عجلات بحصانين مع حذف جملة مراكز الدخولية - فيما يتعلق بخط السير- والاكتفاء بشوارع المحروسة فقط، اللافت أن قيمة رسوم استخراج الرخصة وقتها بلغت «60 غرشا» - وكان القرش يكتب بالغين وليس بالقاف - أما رخصة الجمل فزاد عليها جملة «والسفر إلى الأقطار الحجازية» على اعتبار أن السفر زمان للحج والعمرة كان بالجمل الذى كان يطلق عليه «سفينة الصحراء».
رخصة الجمل كانت تفرق فى قيمة الرسوم «30 غرشا» حيث بلغت قيمة رسوم استخراجها «90غرشا».
«تذكرة البدلية» هى الوثيقة التى كانت تمنح لمن يقوم بدفع الغرامة للإعفاء من الجهادية، وصدر منها أربعة أنواع : الأول عام 1285هجرية - أى عام 1864 ميلادية، حيث كان التاريخ الهجرى هو الرسمى.. اللافت أن مواصفات الأشخاص كانت العامل المشترك فى كل المستندات والوثائق والرخص الرسمية التى كانت تصدرها الدولة فى تلك الفترة، و«تذكرة البدلية» لاتخلو منها، فكتب فيها: السن«32» طويل القامة، محمر اللون، مفتوح الحواجب، بعيون عسلى.. ثم يكتب: دافع هذه التذكرة «أحمد» بن «إبراهيم» ضمان - أى الضامن - «إبراهيم على» من ناحية «الصوامع الغرب» بمديرية «جرجا» الموضح أوصافه وسنه أعلاه، كان مستخدم بالعسكرية فى 5 جى أورطة - جى بلوك - برتبة «نفر»، وقدم بدليته فى سنة 1285 وصار إخلاء سبيله من بعد ما دفع المقدار المعين من النقود - عشرون جنيها مصريا لاغير - بخزينة الجهادية ليتوجه ويسعى على معاشه، وقد تحررت له هذه التذكرة لأجل عدم دخوله بالعسكرية ولا بالإمدادية مرة أخرى. النوع الثانى صدرعام 1899 ميلاديا - وكتب فيها: نظارة الحربية- تذكرة بدلية نقدية عسكرية - وكتب فيها: باسم «محمد فؤاد بن على بك»، ضمان «والده»، بلد «التبانة»، قسم «الدرب الأحمر»، مديرية «مصر» ، «19» سنة، القامة « 173» مقاس الصدر« 84» لون الجسم «قمحى»، لون العيون «عسلى» مفتوح الحواجب، العلامات غير الاعتيادية «تشاريط بالصدغين».. دافع هذه التذكرة الشخص الموضح اسمه وبلده ومديريته وسنه وأوصافه بعاليه، وقد إلتمس توريد البدل النقدى عن نفسه، الذى قدره عشرون جنيها مصريا المنصوص عليه فى الشرط الأول من المادة الأولى المدونة بالأمر العالى الصادر بتاريخ 18« جمادى الثانى سنة 1302» الموافق «أول مارس سنة 1888» بشأن البدلية العسكرية وذلك لأجل عدم دخوله فى القرعة العسكرية، أما النوع الثالث فصدر وبنفس الصيغة عام 1906 مع إضافة جملة «إدارة القرعة» بجوار اسم «نظارة الحربية».. والنوع الرابع صدر عام 1921 وبنفس الصيغة مع تغيير اسم «نظارة الحربية» إلى «وزارة الحربية».
رخصة «السقا» صدرت عام 1884 ميلادية وتحمل اسم صاحب الترخيص ونفس المواصفات التى تتضمنها الوثائق السابقة لأصحاب الرخص، ولكن يضاف لرخصة «السقا» أن تبعيته تكون «للحكومة المحلية». الفئة المسئولة عن السقايين كانت تضع طالب الترخيص تحت اختبار قاسى، بأن يحمل ما يقرب من 70 رطلاً - أى ما يوازى 35 كيلو جراما لفترة طويلة لقياس قوة تحمله، بعدها يمنح الرخصة لمزاولة المهنة.
لم تكن الدولة المصرية فى بدايات القرن الماضى حريصة فقط على استخراج شهادات الميلاد لأطفال العائلات فقط، بل كانت حريصة كل الحرص على إستخراج شهادات ميلاد للأطفال اللقطاء أيضا، فمن ضمن مقتنياتى شهادة ميلاد للقيط تمت تسميته - بالطبع - عن طريق الجهات الرسمية بناءً على طلب من عثروا عليه، فأطلقوا عليه اسم «محمد عبدالله» - حيث إن خير الأسماء ما حمد وما عبد - والشهادة تحمل نمرة «2590»- حيث استخدام كلمة رقم لم يكن موجودا من قبل - وكتب تاريخ الميلاد «11 نوفمبر1911» كما كتب على هامش الشهادة: «المذكور لقيط وجد على سطح أحد المنازل بشارع المحمودية - قسم الخليفة».. اللافت أن الدولة المصرية وقتها كانت حريصة على صحة الأطفال، وكانت تفرض عقوبات - بقياس زمان صارمة - لمن يتخلف عن تطعيم أطفاله ضد شلل الأطفال والجدرى والحصبة والكوليرا.. ففى ذيل الشهادة كتب: «ينبغى تطعيم الطفل فى ظرف ثلاثة شهور من يوم ميلاده ومن يتأخر عن تطعيم الطفل بالمدة المعينة يعاقب بغرامة من عشرة لمائة غرش».