شتم أحدهم رجلا حكيما فأجابه هذا: «ياولدى إذا رفض امرؤ قبول الهدية فإلى من تعود؟» فأجابه الرجل: «إلى مهديها» قال الحكيم: «إذن أنا أرفض إساءتك». من البساطة أن يسب الإنسان ويشتم الآخرين ولكن يكون قد خرج عن معاييره الإنسانية وبان ضعفه وخوره أمام الأقوياء الذين ليس باستطاعته أن يحاورهم أو يجادلهم أو يقارع حججهم.. ومن السهولة أن تستخدم كل وسائل التجريح والرموز البدائية إن كنت متخلفا وجاهلا وليس لديك أسلحة كافية ولا أدلة وافية، ولكن إن كنت أخلاقى المهنة وواسع الأفق وعميق الثقافة فمن السهولة أن تجادل الآخر وتأخذ وتعطى معه، خصوصا إن كانت هناك أخطاء جسيمة فى المعلومات والحقائق وتباين فى الرؤية والمواقف. أما أن تكون هناك آراء وأفكار وأحكام واجتهادات.. فأتمنى على أى فرقاء أن يستوعبوا ذلك ويقابلوا الرأى بالرأى والحجة بالحجة وأن يدققوا فى المعلومات وبأسلوب ديمقراطى خالٍ من الترصد. إن اختلاف الناس المتمدنين وتباين أفكارهم ورؤاهم غير اختلاف أبناء الشوارع، فهؤلاء يصارع أحدهم الآخر على توافه الأمور.. فما الذى يدعو الإنسان المتحضر للتخلى عن روعته وسموه وأخلاقياته ومعلوماته ومعارفه كى ينحدر لأسباب واهية. كنت أشاهد إحدى القنوات الفضائية الدينية فطلع أحدهم على الشاشة فى برنامج تليفزيونى مطول أسماه ب «الإسلام الشرير» ويقال إنه صاحب القناة التى لا يعرف أحد من يمولها، ومن أين تبث برامجها، يهذى ضد الإسلام عموما ولم يجد من السيئات إلا وصفه بها، ولم يجد من الشتائم إلا كالها لنبيه ورسوله الأعظم.. ولم يجد سبابا إلا ألصقه بالملايين من أبناء الإسلام ووصفهم بأقبح الصفات والتفت إلى مصر ليقدح بها وبمجتمعها، وينال من رجالها وحكومتها لقد صعقت وأنا أرى وأسمع أقذع الكلمات وأوسخ التوصيفات وأسوأ التشبيهات وأخطر التهديدات تكال على مدى ثلاث ساعات من الزمن وعلى لسان شخص لن يترك لنفسه أى هامش يتحرك عليه ولا أى خط رجعة يمكنه أن يتراجع منه.. هل وصل الانحدار بالإنسان حتى يلصق التهم جزافا بحق أمة كاملة ومجتمع عن حدث مأساوى لا يمكن أن تكون كل مصر مسئولة عنه.. ولا يمكن أن يكون دين يؤمن به الملايين من البشر مسئولاً عنه.. ولا يمكن أن يكون لحكومة بلاد أو رئيسها أى مسئولية لهم فيه، إن من له عقل راجح وهو يرى ويسمع ما يعرض على شاشات الفضائيات بالعربية سيبكى طويلا بالذى حل فى مجتمعاتنا من تفسخ وتشرذم وكراهية وأحقاد.. إن من له أى قدرة فى تقييم الحياة هو غير من لم يفكر إلا فى رهاناته وكيفية تجريحاته ليشفى غليله.. إن أسلوب الإثارة والتقولات والمنشورات الهستيرية تزيد من مشكلات الواقع وتمزيقه وتزيد من إضرام النار فى الهشيم بإشعال الفتنة التى لا يمكن أن تنتهى إلا بالمآسى والكوارث. إننا نرى حجم التهافت وانعدام الأخلاق باستخدام وسائل إعلامية جديدة، ونشهد إسفافا مريعا فى حجم ما ينشر على الملأ من خلال المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية وحتى بعض الصحف والكتابات اليومية إن ما ينشر يثير الاشمئزاز والقرف حقا.. خصوصا عندما يتحول المرء من نقد الفكرة والموضوع والرأى والموقف إلى إطلاق كل البذاءات الشخصية ويفتح قاموس كل الشتائم السوقية وكأنه بذلك يشفى غليله ويطفىء احتراقاته.. إن هذه «الأنماط» من البشر تريد بهذا الأسلوب أن تجعل من ذواتها أبطالا تتناقل الناس أقوالهم فى حين أنهم لا يسيئون إلى من يتناولونه بالذم والقدح بقدر ما يسيئون بذلك لأنفسهم حقا، إنهم ليسوا من جيل الشباب فقط، بل إنهم من الذين شاخوا على هذا «النمط» من الأخلاق. تساؤلات مهمة: متى يترك أغلب هؤلاء هذه التركة الثقيلة من البذاءات؟ متى يؤمنون إيمانا حقيقيا باختلاف الرأى؟ متى يحاولون تأسيس أخلاقيات جديدة فى التعامل الحضارى المتمدن على أقل تقدير ليتركوا لغة أولاد الشوارع لأصحابها؟ متى باستطاعتهم أن يتعلموا ردود الفعل التى ينبغى أن تتسم بالهدوء من دون أى انفعالات ذاتية؟ متى يبعدون الذات عن الموضوع؟ متى يتخلصون من أحادية الرأى وكأن كل واحد منهم هو المالك للحقيقة الناصعة وكل الآخرين على ضلالة وكل ضلالة فى النار؟ متى يشعر الإنسان أنه حامل رسالة محبة وود وإخاء لا حامل صولجان ونجوم أو سكين قاطع يستعرض بها العضلات؟ شتم الآلهة والعبيد قلت فى مقال منشور لى منذ سنين: نعم، إنك تقف عند صحون يجتمع فيها عدد من نساك ومتبتلين وبكائين ومتصوفة وفى الطرف الآخر تستمع إلى أقذع أنواع الشتائم والسباب بحق كل الآلهة! إن الثقافة العربية تزدحم بهذا النمط من الشتائم ولكن بدرجة أو أخرى من التفاوت وقد عرف العرب شعر الهجاء والكلام المقذع والأساليب البذيئة والإهانات المتعمدة فهل من سبيل للخروج عن هكذا أطوار من ردود الفعل التى تعبر عن سيكلوجيات غاية فى التعقيد والجنوح.. إننى بقدر ما أنتقد الكلام السليط والتعابير الجارحة التى يستخدمها العامة فى كل مكان من دون أى أصول ولا أى قيم أو أخلاق فإننى لا يمكننى أن أتخيل إعلاميا يطلق السباب والشتائم بحق آخرين من الآلهة إلى العبيد وكأنه شقى من الأشقياء. أسلوب النقد إن الملاحظات القوية اللاذعة شىء والكلام السوقى المبتذل شىء آخر!! إن توجيه الطعون والتصويبات شىء وإن توجيه اللكمات والصفعات شىء آخر وربما كان المتلقى مستعدا لتلقى كل ذلك وربما كان المتلقى غير مستعد أبدا لذلك.. ومن أسوأ الطباع أن تفقد حسن التعبير لتتكلم بمنتهى الفظاظة عن أمر عام.. ربما كان موضوع الذات لا يحتمل التأخير أو الصبر كونه يتعلق بالكرامة الشخصية ولكن اختلاق الأسباب لأمر عام فلا يمكن أن يعامل الآخرون بسبب معاملة سوقية.. ومهما ألقى من التهم الجاهزة، فالمتهم برىء دوما حتى تثبت إدانته فإن كان الشتامون على صواب، فليثبتوا لكل العالم التهمة بشكل واضح وعرض كل الشواهد والقرائن والوثائق.. إن مصيبة مجتمعاتنا أن أبناءها تربوا منذ خمسين سنة على ثقافة اتهام الخصم من قبل ثقافات الإذاعات المستهترة، والأحزاب المؤدلجة وثقافة الدعايات السمجة التى كان يرتل مضامينها الإعلام الرسمى فى الإذاعات.. أى ثقافة هذه التى يحملها مثل هذا النفر الذى يدرك أنه يخاصم ولكن لا يدرك ما الآلية الذكية فى المواجهة؟ أى أخلاقيات هذه التى يدعيها ممن يستخدم أرق التعابير وأنبل الألفاظ وبسرعة ينقلب انقلابا فظا فيقوم بسحق كل أدواته مستخدما أوسخ التعابير. صناعة الخصومات إن المسألة برمتها لا تتعلق بالشأن العام بقدر ما تتعلق بحالة التوتر وحالة الغضب وحالة النقمة وحالة الغيرة وحالة الحسد والإيغال فى الكراهية من دون سبب حقيقى أو تهمة مؤكدة وهى منتجة لكل هذا «الزبد» وكل منتجات الأعماق وبتعابير غاية فى البذاءة وقلة الأدب، وأسأل: لماذا كل هذه الكراهية؟ وهذا الغل؟ لماذا تراكم كل هذه الأحقاد؟ لماذا يخالف هذا ذاك فيشن عليه مهرجانا من الغضب الرخيص؟ ولعل المزايدات الوطنية هى عناوين شرف يحتلها هذا دون ذاك.. وكأن المباريات فى المعتقدات محتكرة من قبل أناس دون آخرين!! وكأن استعراض الرجولة لا يتم إلا من خلال جعل الآخرين أطفالا مغررا بهم. وأخيرا: ماذا نفعل؟ على جميع هؤلاء وأمثالهم الذين يستخدمون هذا الأسلوب الدعائى المضاد للحياة المدنية، إنما يثير بعمله هذا فتنة عمياء فى المجتمع، كما أنه يزيد من تعقيدات الانقسام الاجتماعى من خلال التفرقة السياسية وفى مجتمع لا تجانس فيه.. إن هذا الأسلوب الذى أخذ ينتشر انتشارا مذهلا بسبب الثورة التكنولوجية والميديا التى تجتاح العالم كله اليوم. إن على مجتمعاتنا أن تعى حجم وتأثير هؤلاء على الناس.. فضلا عن ضرورة القيام بثورة تربوية تتعلم منها الأجيال القادمة كيف تتعامل مع هكذا ظواهر سيئة للغاية.. إن ما يجرى اليوم فى الساحة الإعلامية العربية يثير القرف والاشمئزاز حقا.. ولابد من إيجاد جملة من السبل والمناهج التى تستأصل الأخطاء وتضع البدائل فهل سنشهد اختفاء لهذه الظاهرة فى يوم قريب قبل أن يستفحل داؤها، وتفنى مجتمعاتنا بسببها.