بدلة سوداء يرتديها، خوذة ثقيلة على رأسه، درع بلاستيكى فى يديه، يقف ذلك الشاب بعظامه الهشة ووجهه المجهد كدرع بشرى لكل من له مطلب أو تظلم أو حتى شكوى، ومطلوب منه أن يتحمل الشتائم والضرب.يكرهه النظام، الذى لايعرف عنه شيئاً سوى البدلة التى شاءت أقداره أن يرتديها!! ويعلق عليه المتظاهرون ذنوب وأخطاء سياسات لم يقترفها.
ذلك هو حال مجند الأمن المركزى الذى قاده حظه أن يكون دائماً على خط النار دون أن يجد من يستمع إليه، حتى الإعلام الذى تجاهل معاناته لم يخجل فى كثير من الأحيان أن يتعامل معه وكأنه جندى «احتلال».محمد شعبان - 19 عاماً - مجند جاء من قرية تابعة لمركز شبين قال لنا: أنا وزملائى لا نعلم ماذا ينتظرنا، نشعر فى الشارع بأنه لا كرامة لنا فى هذا البلد، وكأننا جئنا من بلد آخر مجبرون على تنفيذ الأوامر،لا نتحدث فى السياسة.. حياتنا الشخصية متوقفة، لا نستطيع العمل ولا نتقاضى سوى مكافأة الخدمة القليلة حتى إننا لا نستطيع السفر إلى أسرنا!
أما المجند سيد حمادة فقبل 7 أشهر من تجنيده كان يسمع فقط عن الاشتباكات التى تدور فى ميدان التحرير، ثم وجد نفسه بعد ترحيله لموقع خدمته طرفاً فى ساحة الصراع، كما يقول: «أصبحت أكره نفسى وأكره المتظاهرين وكل شىء».سيد الذى وصف نفسه بأنه «كبش فداء»، وأن شبح المحاكمة العسكرية دائماً حاضراً فى مخيلته، ولأنه دائماً فى قلب الاشتباكات ومعرض للموت أو الإصابة.وعن المواقف التى تعرض لها وسط الاشتباكات يقول: نقلت المصابين من زملائى الذين ليس لهم ذنب فى كل مايحدث ونحن نعلم أننا كبش الفداء ونوضع كدروع بشرية للمتظاهرين، نعرف أننا قد نموت أو على الأقل سنفقد أعيننا أو أقدامنا!
د. هدى زكريا - أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب - جامعة الزقازيق، ترى أن مجند الأمن المركزى من أكثر الفئات فى المجتمع تعرضاً للإذلال وعدم الإنصاف وقالت: مجند الأمن المركزى دائماً يوضع على خط النار ويهدر الإعلام حقه ويتجاهله كأنه لا يرى فى المشهد إلا السلطة والمعارضة فقط.وتؤكد د. هدى أن هناك نظرة ظالمة لمجند الأمن المركزى وكأنه تجرد من وطنيته بمجرد ارتدائه بدلة التجنيد، وتختلف معاملته عن الفترة السابقة علي تكليفه بالتجنيد، فيصبح منبوذاً من الناس الذين لا يرون فيه إلا السلطة الغاشمة، علاوة على أنه لا يعامل معاملة إنسانية داخل مقر عمله، والدليل ما تحدث عنه الناجون منهم فى حادثة قطار البدرشين من أن التعامل معهم يكون بأسلوب يشبه التعامل مع العبيد من قبل رؤسائهم.
وتدفعهم السلطة إلى المقدمة حيث نار جهنم ويتعامل معهم المعارضون بأنهم ممثلون للسلطة فيضربون من كل صوب وبلا إنسانية وتنسحب عليهم كل المواقف التى تنسحب على وزارة الداخلية.وتتساءل د. هدى: هل وصل الأمر بدولة فى حجم مصر أن نعامل الجندى فيها بهذا السوء؟ لماذا لم تتوقف كاميرات الفضائيات قليلاً لتروى مأساة هذا الشاب الريفى الفقير الذى أحرق داخل سيارة الشرطة وهو لم يتجاوز العشرين عاماً بعد، وقد تم تجنيده لأنه كان قليل الفرص والتعليم والحظ وحتى ملامحه كانت تعكس معاناته وحرمانه من أبسط حقوقه.
فى حين أشار د. إلهامى عبدالعزيز - أستاذ علم النفس جامعة عين شمس - إلى أن جندى الأمن المركزى الذى يأتى من طبقة فقيرة منحدرة التعليم والثقافة حتى يسهل قيادته وتنفيذ أوامر رؤسائه، يتعرض لعملية غسيل مخ حتى يعتقد بأن المتظاهرين ضد الوطن والنظام ومثيرون للشغب مما يجعله يواجه أولئك المتظاهرين بمنتهى القسوة والعنف لاعتقاده أنه يحمى الوطن منهم.فهو أداة تنفيذية، إما أن يخالف الأوامر فيقع تحت طائلة العقاب أو يطيعها فينجو من ذلك، وفى جميع الأحوال فهو ينزل الساحة دون أن يدرب على كيفية التعامل مع المظاهرات بشكل حضارى أو حتى كيفية القبض على مثيرى الشغب دون قسوة أو انتهاك لآدميتهم.
ويظهر هذا فى وقائع شاهدنا فيها قسوة شديدة تجاه المتظاهرين الذى ينظر إليهم المجند باعتبارهم مصدر إزعاج وخطر عليه وعلى الوطن، كما يؤكد د. إلهامى أنه عندما تزداد الضغوط النفسية على تلك الفئة تصبح أشبه بقنبلة موقوتة معرضة للانفجار فى أى وقت، وهذا ماحدث بالفعل عندما ازدادت الضغوط عليهم فكان التمرد الأشهر لجنود الأمن المركزى فى عام 1986عندما سمعوا بمد الخدمة لهم لتكون ثلاث سنوات بدلاً من سنتين واستمرت حالة الانفلات الأمنى لمدة أسبوع أعلن فيها حظر التجوال.
بينما وصف د. إيهاب يوسف، رئيس جمعية الشرطة والشعب، مجند الأمن المركزى «بالمتهم البرىء» فهو أكثر شخص يصب الجميع عليه غضبه. وأشار د. إيهاب: إلى أن الجمعية أصدرت تقريراً يرصد الحالة الراهنة وتطور الأمور سواء بين رجل الأمن والمواطن خلال الفترة الماضية وسوف يعرضون ما رصدوه لكننا ضد فكرة حل قطاع الأمن المركزى وإلغائه لأن الأوضاع التى تمر بها البلاد تتطلب بقاءه حسب تقديرهم.
د. إجلال إسماعيل حلمى أستاذة علم الاجتماع جامعة عين شمس وصفت مجند الأمن المركزى بالمنكوب التعيس الفقير وقالت: بدلاً من أن نحترمه ونفكر فى أحواله وكيفية مساعدته ونكف عن الإساءة إليه واتهامه ونقدر له تعريض حياته للخطر لتأمين المنشآت.. قمنا بتصنيفه اجتماعياً كغير لائق وفى عمله دائماً يأتى كفرز أخير لانتمائه لطبقة اجتماعية بسيطة فيعامل معاملة العبد أو الخادم لأسر الضباط حيث يتم تكليفه بمهام لا علاقة لها بطبيعة عمله وإرهاقه فى العمل فى غير الأوقات المخصصة لذلك.
وأخيراً توجهنا بأسئلتنا إلى اللواء أشرف عبدالله مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن المركزى.. فأجاب قائلاً: قطاع الأمن المركزى بجميع أفراده وليس المجندين وحدهم كان لهم مطالب قاموا بإيصالها من خلال اجتماعهم بالرئيس مرسى، الذى قام بزيارة قطاع الأمن المركزى.. كانت أهم المطالب الحماية القانونية لرجل الأمن من خلال إصدار قانون التظاهر وتشديد العقوبة على من يتعدى على الممتلكات العامة والخاصة ودور الشرطة فى حماية تلك المنشآت، ثم الحماية الإعلامية بعد التعدى والهجوم المفرط على أجهزة الشرطة واستهدافها من قبل الفضائيات التى أساءت إلى الجهاز الأمنى وحرضت الشعب ضده.