لم يخف البعض فى واشنطن انزعاجهم وقبل ساعات من وصول وزير الخارجية الأمريكى الجديد جون كيرى للقاهرة من رفض قادة جبهة الإنقاذ قبول دعوة السفارة الأمريكية للقائه، إلا أن مصادر أمريكية تحدثت بثقة تصل إلى حد اليقين من نجاح كيرى فى مهمته لتهدئة الأوضاع فى مصر، والتى ستركز على مطالبة حكومة الإخوان بتقديم ما يشجع المعارضة على إنهاء مقاطعتها للانتخابات أى «جزرة» أو بمعنى أصح «حزمة جزر»، وهو الأمر الذى سيعززه كيرى بمقابلته لفصائل من المعارضة لتشجيعهم على الاستمرار فى حوار وطنى كجزء من عملية التحول التى تمر بها مصر بعد الثورة، وقبل الخوض فى تفاصيل المقترحات الأمريكية للوصول إلى هذه النتيجة المطلوبة بشدة، فإن التوقف عند بعض الوقائع الأخيرة والحسابات الأمريكية لدى إدارة أوباما بخصوص الشارع المصرى يصير ضروريا منها.
- أن واشنطن قد تسمح بترنح مصر لكن ليس بسقوطها وأن حالة الاقتصاد المصرى المتردية تظل هى الهاجس الذى تخشاه واشنطن. - عدم تحديد موعد لزيارة مرتقبة للرئيس المصرى لواشنطن. - المحادثة الهاتفية بين أوباما ومرسى والتى تُرك للرئاسة المصرية إعلانها أولا ثم أصدر البيت الأبيض بعدها بيانا آخر جاء فيه أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما حث مرسى على حماية المبادئ الديمقراطية، وعن «قلقه العميق» بشأن القتلى والجرحى من المتظاهرين فى مصر. فيما كانت السفارة الأمريكيةبالقاهرة ترتب لجون كيرى جدول لقاءاته بمصر وهو جدول الأعمال الذى لم يتم تحديده نهائيا حتى يوم من وصول كيرى حيث أضيف العديد من رموز المعارضة والمجتمع المدنى، بعد أن رفضت زعامات رئيسية فى جبهة الإنقاذ علنا وعبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى ومنهم حمدين صباحى مؤسس التيار الشعبى، والدكتور البرادعى رئيس حزب الدستور، وقيادات أخرى من الجبهة دعوة كيرى للقاء وإرسال مندوب غير قيادى للاجتماع، وهو الأمر الذى سبب بعض الضيق لواشنطن لكنه لم يصل لحد الانزعاج نظرًا لقبول بعض قيادات أحزاب وفصائل غير إخوانية لقاء وزير الخارجية الأمريكية مما طمأن الجانب الأمريكى على نجاح مهمة كيرى، إذ اعتبر إرسال مندوب أيَّا كانت درجته موافقة ضمنية. ورغم القلق الأمريكى من الحملة الشعبية المتصاعدة فى الشارع المصرى ضدها لمساندتها الواسعة للإخوان، وتخوفها من رد فعل الشارع الذى قام قبل عامين بثورة لا رأس لها، إلا أن المفارقة كانت فى ثقة أمريكا فى التعامل مع بعض قيادات المعارضة، وبالتالى فرصة إقناعهم بالمشاركة فى الانتخابات، ولعل ما طمأن واشنطن هو قبول كل من رئيس حزب تاريخى كبير، ومعارض يدعى كونه ليبراليًا حضور اللقاء والمشاركة فى الانتخابات، وقد ساهم الأخير فى تكريس صورة يروجها الإخوان خارجيا لاسيما فى واشنطن ومفادها «أن هناك استجابة لحوار وطنى متنوع دعا برعاية الرئيس رغم القلة التى تحاول إملاء شروطها للمشاركة فى أى حوار وطنى»، وقد التقمت واشنطن هذا المبرر بارتياح، لذا نلاحظ فى بيان البيت الأبيض بعد محادثة أوباما ومرسى الهاتفية الإشارة بوضوح إلى ترحيب أوباما بدعوة مرسى للحوار مع المعارضة ومؤكدا أن هذا الحوار يجب أن يحدث دون شروط مسبقة، وتأكيد أوباما على أنه لا بد للقادة المصريين من جميع الأطياف السياسية تنحية خلافاتهم جانبا والتوصل معا إلى اتفاق على المسار الذى سوف تتحرك مصر منه إلى الأمام». الغريب أن هذا الاهتمام الأمريكى بجمع ودعوة ممثلين لفصائل متنوعة من المعارضة للقاء جون كيرى أنسى على ما يبدو القائمين على دعوة هؤلاء أصول ثقافية وبروتوكولية مصرية إذ وجه الدعوة بالبريد مسئول البروتوكول بالسفارة الأمريكية وليس السفيرة، وعلى مايبدو أن هذا الأمر وإن كان شكليا إلا أنه زاد الطين بلة، جبهة الإنقاذ والفصائل الرئيسية فى المعارضة مستفزة أصلا من الطرح الأمريكى الذى استبق زيارة كيرى بالترويج تصريحيا وإعلاميا بأن الهدف من الاجتماع هو أن تشارك المعارضة فى انتخابات البرلمان، ولذا كانت رسالة المعارضة قاطعة بأن زمن الإملاءات قد ولى وانتهى. ماذا تريد أمريكا حقا؟ الإجابة فى كلمة واحدة وهى «التهدئة» فواشنطن من الآن وحتى المستقبل القريب ستكون مشغولة بالملف السورى، والمتابع لجولة كيرى الأولى كوزير للخارجية يستطيع أن يلمس هذه الأولوية فدون الانتهاء من الملف السورى والتوافق مع روسيا بتعاون أوروبى وعربى حول هذا الملف لن تستطيع واشنطن التعامل مع صداع حزب الله ومن ثم التفرغ لإيران، وبناء عليه فإن التوتر فى مصر هو آخر ما تريده واشنطن، وهذا الهدوء المطلوب يعيدنا إلى نظرية «الجزر» كحل أمريكى لتهدئة مصر ولو مؤقتا، وعن المقترحات الأمريكية للإخوان فهى متعددة وعلى رأسها: - الوعد بإشراك المعارضة فى الحكم تشمل منح مناصب كبرى ووزارات فى الحكومة الجديدة أى حكومة ما بعد الانتخابات لوجوه بارزة من المعارضة. - إبطاء إجراءات أخونة الدولة المصرية. - الإنهاء الملموس لممارسات العنف الظاهر للعيان والممنهج ضد المتظاهرين. - التعهد بانتخابات دون تجاوزات والسماح بمراقبة دولية. - تهدئة الأقاليم لاسيما مدن القناة لإنهاء حالة التوتر لمنع أى تهديدات تعوق الحركة فى قناة السويس وأد العصيان المدنى الذى قد يمتد إلى باقى أنحاء الدولة. - الإسراع بمعالجة الوضع الاقتصادى المتردى وفى المقابل فالولايات المتحدة ستفعل ما بوسعها لحث أطراف عربية وأطراف دولية على ضخ استثمارات بعينها وأموال لمساعدة الاقتصاد المصرى المنهار. ملحوظة: تتردد فى واشنطن منذ أيام بأن ثمة جهودًا أمريكية ستتم مع دول عربية للتحكم فى صنبور ضخ الأموال لفصائل إسلامية متشددة فى مصر. كانت هذه بعض ملامح مقترحات حزمة الجزر، ولعلنا نجد فى أداء الحكومة المصرية على مدى الأيام القليلة الماضية ما يشير إلى اتباعها بشكل واضح منها على سبيل المثال دعوة الرئاسة إلى حوار وطنى- دعيت إليه معارضة «مقدور عليها»- ووجدنا مساء أمس الأول الرئيس مرسى يصدق بغتة على قانون عودة مدينة بورسعيد كمنطقة حرة! لاحظوا السرعة التى تم بها الأمر ما بين مكالمة أوباما ووصول كيرى للقاهرة للبدء فى مساعيه للتعرف على الوضع الداخلى فى مصر، وكذا لإقناع كل القوى السياسية المشاركة بالانتخابات المقبلة، ولا يكون غريبا على البعض فى القاهرة خاصة قيادات الإخوان والحرية والعدالة فهو من سبق وتوافق معهم فى زيارات ما بعد الثورة. وأخيرا فما يقوم به كيرى فى القاهرة شىء وما يحدث على الساحة السياسية الأمريكية شىء آخر هذه الأيام، فواشنطن بدت مشتتة، فالحكومة فى اتجاه والكونجرس ومراكز صنع القرار فى اتجاه ثان، وأبدت وسائل الإعلام الأمريكية اهتمامًا أكثر بالوضع المصرى بعد أن كانت حتى أسابيع قليلة تغض النظر عن انتهاكات حقوقية ومصادمات بين المتظاهرين فى مصر وبين السلطات، حيث طالعتنا صحف كبرى كالواشنطن بوست بتقارير تطالب أوباما بعدم تكرار ما كان يفعله مع مبارك من مساندة، وتجاهل ممارساته الدكتاتورية ووصل الأمر إلى اقتراح الباحثة ميشيل دن فى مقال مشترك بالبوست بأن يجمد أوباما دعوة مرسى لزيارة مصر مالم يلتزم بمعايير الديمقراطية. على أية حال فإن الثابت أن إدارة أوباما مازالت مستمرة فى سياستها الداعمة لما هو فى الحكم حتى إشعار آخر، وهذا الاشعار قد يحدد موعده ذلك الكم الهائل من العمل والغضب فى آن واحد لمصريين أمريكيين وحقوقيين يعملون بصمت منذ فترة لتوثيق وإيصال سجل كامل من الانتهاكات الحقوقية لمراكز صنع القرار والمنظمات الحقوقية والجهات التشريعية وعلنا حتى يواجهوا صناع القرار الأمريكى بها.∎