حين يبدأ موسم الهجرة إلى الجنوب .. وتشد القوى السياسية والمدنية والأهلية الرحال إلى الصعيد.. بعد أن يعض الجوع يدها، ويؤرق البرد القارس نومتها، وتلهب الشمس الحارقة بشرتها، وتتنفس العوز والفقر، وتتفهم المشكلات وطبيعة العلاقات الاجتماعية والتركيبة النفسية لسكان الإقليم الجنوبى.. يحق لها أن تتساءل: لماذا لا يثور الصعايدة؟!
بعدنا عنه، وأشحنا عنه الوجوه.. فخاصمنا، اعتزلنا، وأعطى ظهره للثورة والسلطة.. هجرا بهجر، وإهمالا بإهمال.. النفس الصعيدية النقية أبية، تتنفس كرامة واحتراما، لو قدرتها حقها أفاضت عليك من نعيم الفعل الثورى فوق التخيل، وأبهرتك بقدرتها على الصمود والتحدى! من أرض التناقضات تمتد جذورى، الخشونة المغلفة بالحنو، اللهيب البارد، والجود المولود من رحم الفقر.. هالنى ما رأيت، وكأن عامين وأكثر مرا علينا، لم يحركوا ساكنا فى 11 محافظة تسير فيها الحياة بشكل طبيعى.. يتابعون ميدان التحرير عبر الشاشات كما يتابعها الأجانب.. وكأن شيئا فيما يجرى فى العاصمة والإقليم الشمالى يخصهم! مهما تغيرت أشكال وشخوص ومناهج السلطة.. لا جديد تحت شمس الصعيد.. فهم تمرسوا وتدربوا وأهلوا نفسيتهم على أنهم منسيون.. لا أمل ولا غد ينتظرون.. يتندمون على فعلة الفرعون «مينا» الحمقاء حين وحد القطرين، ليصبح القطر الجنوبى مجرد خزينة الدعم اللوجيستى للشمال، راضيا مرضيا من فتات ما تبقى! الطبيعة الخشنة.. والعزة فى النفوس .. جعلتنا لا نفكر أن نمد أيدينا لحكومة أو لنظام نطلب منه حقوقنا المهضومة فى التنمية.. وحقنا فى الثروة.. الحياة الكريمة فى نظر الصعيدى أن يملأ بطنه من طين الأرض وشربة ماء من نيلها وألا يقف على باب مسئول يتسول حقه فى العيش! أذهلتنى النبرة العنصرية من القوى السياسية والمجتمعات المخملية التى عايرت الصعايدة بتصويتهم لمحمد مرسى رغم ضعف التواجد الإخوانى هناك، والاستفتاء بنعم على دستور يزيد الفقراء فقرا ويعمق أوجاعهم.. دون أن يدركوا أنهم السبب.. فجاءتهم النتيجة عقابا فى رسائل مسجلة بعلم الوصول فى بطاقات الاقتراع! هذا الكلام عن تنمية الصعيد لا شىء.. فقط حين ينفجر الإرهاب.. تتذكر الدولة أن هناك واجبات ناجزة تجاه هذا الجزء المنسى من الوطن وتقدم بعض الخدمات العاجلة، التى تتلاشى تدريجيا ليعود الأمر أسوأ مما كان! تزاوج الفقر والجهل لا يحرك المواطن لمصلحته، لا يفهم معنى الثورة، ولا أحلامها وطموحاتها، بل قد يتصورها خرجت ضده شخصيا لتلتهم باقى لقيماته البسيطة. العلم نور.. والكهرباء مقطوعة عن مدن الصعيد لعقود.. حتى الشبكات قررت التمرد والعصيان على بصيص الضوء وتعطلت من نفسها .. عز عليها أن تعمل فى هذه الأجواء المشحونة.. حتى تزداد الصورة سوادا. بمنتهى الإهانة تدحرج مشروع المليون بطانية لأهالى الصعيد، ككرة الثلج من أعلى سفح الكرامة، وكأن الستر فى البرد هو أقصى أمانى الصعيدى.. خذوا العبرة من الصين، لا تعطونى بطانية، فقط علمنى كيف أستطيع أن أعمل وأكتسب لأشتريها من حر مالى! مهمة جبهة الإنقاذ هى إنقاذ الصعيد واحتواؤه .. لأن شرارة الثورة إن طالت الثوب الجنوبى.. لا تبقى ولا تذر.. الصمت لدينا لا يعنى الاستسلام.. لغتنا الرصاص، وأبجديتنا الدم!