لم أندهش للحظة من قوة وشجاعة وبسالة وإبداع شعب المحلة العاصى على كل الحكام بجميع ألوانهم ومستوياتهم، فلقد عشت معهم أياما فى خيام العصيان الشهير الذى قادنا لثورة يناير، وكانت أجواؤه مشابهة بصورة كبيرة لهذا العبق الثورى بحق، الذى يملأ كل جنبات محلة الكبرياء الآن، فالجنين فى بطن أمه يتعلم ألا يطأطئ رأسه إلا لخالقه.. ونسى الحكام أن المحلاوية كانوا أول من انتخبوهم فى مجلس الشعب نكاية فى نظام مبارك، فأعطاهم المحلاوية درسا لا ينسى بدعم معارضيهم ورفض الديكتاتورية بإعلان الاستقلال والانفصال الرمزى عن مصرهم، ووصل العصيان المحلاوى على ممارسات الإخوان إلى أن أجروا استفتاءً شعبياً على دستور الإخوان لفضح تزويرهم! ولمن لا يعرف المحلة وقوتها التى فشل الخبراء الأجانب والمصريون فى تحليل ظاهرتها، عليهم أن يتذكروا أن هؤلاء الرجال الأبطال هم الذين واجهوا دبابات الاحتلال الإنجليزى بالقباقيب للحصول على بعض من حقهم المهضوم! فكل محلاوى يحمل الصفات الإيجابية للفرعون،فليس من المستغرب أن يرفع مواطنو المحلة شعار الاستقلال عن سلطة النظام الحالى، وتشكيل لجنة تسيير أعمال انتقالية فقد رفعوه فى عهد الرئيس المخلوع مبارك أثناء إضرابهم الشهير وتحديدا، فى سبتمبر 2007 وفى لافتة مكتوبة بخط اليد أعلن عمال شركة المحلة للغزل والنسيج تحرير أرض الشركة عن أى سلطة سياسية أو قانونية. وفى الواقعتين لم يكن المراد منهما الاستقلال الفعلى - كما تصور البعض - ولكن تأكيد المواطنين على شعورهم بالظلم لعدم تقدير الدولة الكافى لمدينتهم والتى يرونها لا تقل فى الأهمية عن مدينتى القاهرةوالإسكندرية، شعور اختلط به الاعتزاز بالنفس مع الغرور الذى يعرفه جيدا العمال المهرة ولم لا وهم صانعو النسيج على مدار التاريخ منذ عهد الفراعنة وحتى الآن. وهناك تفسيرات عديدة لاسم هذا المكان الذى نفخر به جميعا كمصريين، لكن الأكثر واقعية أن كلمة المحلة جاءت من «ديدوسيا» أى نبات التيل الذى حمل اسما فرعونيا وهو محلة دقلا، وكانت مركزاً حضارياً فى قلب الدلتا حتى العصر القبطى والرومانى وعندما دخل العرب مصر أطلقوا عليها محلة الكبراء وكانت تعرف بالوزارة الصغرى نظرا لإقامة الأمراء والشيوخ بها وبالتالى تحولت إلى مدينة للنفوذ والحكم ثم أصبحت مع الوقت المحلة الكبرى، وإن كان لابد أن يطلق عليها محلة الكبرياء لمواقفهم التاريخية التى لا تتوقف. لم يكن اختيار طلعت حرب لمدينة المحلة لإنشاء أكبر مصنع للغزل والنسيج على مستوى الشرق الأوسط عام 1927 عشوائيا، ولكن نتيجة تاريخها العريق فى صناعة النسيج، فهى أول مدينة مصرية تطبق فكر الصناعات الصغيرة على مر التاريخ، وذلك بتخصيص ركن فى كل منزل لنول الغزل ومصبغة فى كل شارع لصبغ هذا الغزل وبيعه ولكن لم تتحول المدينة إلى مدينة صناعية عمالية إلا بعد إنشاء الشركة. وأضاف حرب لمسة الخصوصية للمحلة، ليس بإنشائه شركة على مساحة 32 فدانا برأسمال مصرى (300 ألف جنيه) حينئذ فقط، ولكن بتأسيسه لمجتمع عمالى جديد له ناد اجتماعى ومستشفى وسينما ومسرح ومساكن خاصة بالعمال (يطلق عليها المستعمرة وتضاهى مساحتها الخضراء المنتجعات الحديثة) وبالتالى ارتقى بالمستوى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى للعاملين وابتكر ماعجز عنه مؤسسو عصر النهضة الصناعية فى أوروبا وأصبحت المحلة نموذجا يحتذى به بين المدن الصناعية. ميراث ضخم من الشجاعة والقوة للمطالبة بالحقوق داخل مواطنى المحلة، هو مايميزهم عن باقى المواطنين. فمن مجرد عمال بالقطعة داخل منازلهم ومحاولة تسويق منتجهم، وآخرين فلاحين يعملون بالأجرة، تحولوا إلى عمال لهم أجور ثابتة. من هنا جاء التحول الطبقى الأول والذى تلاه اهتمام من قيادات الحركة العمالية خلال فترة الأربعينيات بهذه المدينة وعمالها وتثقيفهم للمطالبة بحقوقهم، وأثمرت الجهود عن إضراب عام 1947 والمسمى بإضراب «الدبابات والقباقيب» حيث انحصرت المطالب فى زيادة الرواتب والاحتجاج على المعاملة السيئة للعمال ورغم حصار الشركة بالدبابات إلا أنه تمت الاستجابة للمطالب وإدخال «الأفارولات» لأول مرة إلى الشركة، بعد أن ظل العمال لمدة عشرين عاما يعملون وهم يرتدون الجلاليب والقباقيب، وتوالت الإضرابات والتى لم تكن فى مجملها للمطالبة بحقوق عمالية، بل كان بعضها مشاركة سياسية مثلما حدث فى إضراب عام 1953 والذى جاء تضامنا مع عمال كفر الدوار فى إضرابهم واحتجاجا على صدور الحكم بالإعدام على العاملين خميس والبقرى، وكانت النتيجة حملة لجمع التبرعات لعمال كفر الدوار وإرسال مندوبين عنهم للتظاهر مع العمال فى الإسكندريةوكفر الدوار. وشاركت هذه الشركة العملاقة بنصيب كبير فى فاتورة نصر أكتوبر، حيث كان يتم تعيين العامل فيها، وبعد ذلك يتم إلحاقه بالخدمة العسكرية لست سنوات وجاء احتجاج العمال على غلاء المعيشة عام 75 حيث أضرب مايقرب من 30 ألف عامل احتجاجاً على تدنى الأجور، وحاصرت قوات الأمن الشركة. فخرج العمال إلى الشارع، رافعين شعار «نبيع البدلة ليه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه» فقامت الحكومة بزيادة الأجور وجاءت حقبة الثمانينيات بما حملته من غلاء فاحش وتحول فى أنماط الاستهلاك المصرية وأعلن العمال عام 1986 عن الإضراب لمدة أسبوع كامل، مطالبين بإضافة الراحات الأسبوعية للراتب ورفضت العاملات استخدامهن ضد زملائهم لكسر الإضراب ورفضن العودة للعمل دون الإفراج عن كل زملائهم المعتقلين. وفى عام 1988 احتج العمال على قرار «مبارك» بإلغاء المنحة التى كانت تعطيها الحكومة للعمال والموظفين مع بداية كل عام دراسى. وطافت مظاهرات العمال مقر الشركة، رافعين نعشاً يرمز إلى الحكومة.
وبدأت الالفية الثالثة وزادت معدلات التضخم وغلاء المعيشة، وكان لإضراب عمال المحلة آثار اجتماعية بخلاف الآثار الاقتصادية، حيث أضربوا عام 2006 لمدة أربعة أيام للمطالبة بصرف الأرباح بواقع شهرين وليس 100 جنيه فقط، كما كانت تريد إدارة الشركة. استمر الإضراب لمدة أربعة أيام. ووافقت الحكومة على جميع مطالب العمال وسحب نحو 14 ألف عامل الثقة من اللجنة النقابية والتنظيم النقابى التابع للدولة. وعندما شعر العمال ببشاعة الفساد داخل الشركة والمحاولات المستميتة لإلحاق خسائر بها لخصخصتها أضربوا عام 2007 ولمدة أسبوع كامل، وهو الإضراب الذى عايشته معهم وتصادف أنه كان خلال شهر رمضان المعظم وكنت شاهدة عيان على صلابة الرجال والنساء فى المطالبة بتعديل الحافز وربطه بنسبة من الراتب الأساسى، وحل مشكلة المواصلات وإقالة رئيس مجلس إدارة الشركة، وتم تعليق لافتة «هذه الأرض محررة» ردا على منشور إدارى بمنح العاملين إجازة لمدة أسبوع نتيجة الإضراب والاعتصام، وكانت النتيجة ضخ استثمارات جديدة فى الشركة والاستجابة للمطلبين الأول والثانى.
وفى 2008 زادت المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه، وكان فى مقدمة المطالبين عمال المحلة لكل من يعمل بأجر، وربط الأجور بالأسعار. وضمت الوقفة الاحتجاجية 5000 عامل وعاملة، أمام بوابة الشركة، بعد انتهاء يوم العمل، وتقدمت بمسيرة كبيرة، نحو محطة القطار. وتمكنت أجهزة الأمن من إجهاض إضراب 6 إبريل ولكن المدينة انتفضت يومى 6 و7 أبريل وكانت الإرهاصة الأولى لتكوين حركة 6 إبريل المعارضة وبدأت الاحتجاجات العمالية بمختلف القطاعات فى التصاعد والاعتصام سواء أمام مقار مجلس الشعب ومجلس الوزراء والضغط على الحكومة لرفع مستويات المعيشة المتدنية للطبقة العاملة وأصبحت هذه الإضرابات شرارة ثورة 25 يناير .2011 وإذا كانت المحلة قد نادت بحقوق عمالها فى الأربعينيات، وفى ظل نظام رأسمالى شبيه لنظام مبارك واستطاعت الحصول على تلك الحقوق، فكيف بها الآن وهى تضم بين جنباتها 4000 مصنع وورشة منها 100 مصنع كبير والباقى ورش صغيرة لايتعدى عدد العمال فيها 3 أفراد، هذا بخلاف شركة المحلة للغزل والنسيج وشركة النصر للصباغة وهما شركتا قطاع أعمال عام. ولم تعد الندوات والكتب هي وسائل التثقيف الوحيدة للحصول على الحقوق، بل انفتح العالم على مصراعيه ليشاهد العمال تجارب زملائهم فى الدول الأخرى ووسائل أكثر فعالية للحصول على حقوقهم. وما كان تنظيم المواطنين فى المحلة لاستفتاء شعبى مواز للاستفتاء الحكومى ونجاحهم فى إجرائه بميدان «الشون» أكبر ميادين المدينة وإعلان النتيجة بنسبة 75٪ رفضا للدستور و25٪ تأييدا له إلا رسالة موجهة إلى النظام الحالى بأنهم قادرون على التنظيم وكشف الحقائق، ورافضون لأى شكل من أشكال الغش والتزوير التى شابت عملية الاستفتاء، خاصة أنهم هددوا بحرق الصناديق لكنهم تراجعوا لأنهم وطنيون لا بلطجية!.. إعلان استقلال المدينة والذى تداولته مواقع التواصل الاجتماعى ماهو إلا جرس إنذار بعدم رجوع عجلة الزمان إلى الوراء وعدم السماح بقيام ديكتاتورية فاشية تقود البلاد إلى الخراب!