استأذن فى الخروج من باب دوار.. ما لبث أن غادرنا منه.. مكتفيا بأن يظل فى صومعته العاجية ناسكا عابدا متأملا فى أحوالنا.. انسحب بزفة إعلامية تليق بمباراة اعتزال «الأستاذ».. من نفس الباب دلف مرة أخرى «هيكل» ليطل علينا مجددا بزفة العودة الأكثر أناقة.. وما بين لحظة الانسحاب والإياب فرش التلاميذ والمريدون الأرض مقالات وتبريكات لإعادة ميلاده فى عقده التاسع.. أطال الله عمره، وقصر ظهوره!
«الأستاذ» لا يرى إلا «محمد حسنين هيكل» وما سواه عدم.. يظهر مقروءاً أو متلفزا ليحلل نفسه من خلال الأحداث.. نقطة الانطلاق من تحت قدميه، الأسرار والمعلومات فى قبضة يديه، الرؤى والتحليلات بين عينيه.. يختال بصداقاته وعلاقاته وقصصه الشخصية وتظل الأمور والقضايا الأساسية مجرد هوامش عابرة تزين الطريق أمام المبهورين والمنومين مغناطيسيا من نبرة صوته، ولغة جسده، وقلمه «الرصاص» بين أصابعه مصوب فى وجه المشاهدين!
حيثما تكون السلطة يولى وجهه شطرها.. عباد الشمس.. يعيش على الأضواء .. لو أطفأتها فى وجهه تذبل نجوميته.. عابرا للعصور والعهود والملوك والرؤساء.. من فاروق ملكا إلى مرسى رئيسا.. حاضرا على كل الموائد والأحداث.. فارضا نفسه بحضوره وغيابه.. لا يرضى غروره إلا أن يكون شريكا فى القرار.. يقدم نفسه بأنه صانع الرؤساء والسياسات وليس صنيعتهم!
كيف للرجل فى قيمته وقامته أن يغير جلده بعد كل هذه السنين.. من عراب لحقبة الستينيات - وما أدراك ما الستينيات - التى نكل فيها «عبدالناصر» بالإخوان تنكيلا، وكانت سطوره وحروفه شاهدة ومبررة لكل تصرفات الزعيم وعلق ذنبها فى رقبة الجماعة أن يتحول ناصحا وهاديا لذراعها الرئاسية فى الاتحادية؟!
نقطة الخلاف تتجاوز تلون الرجل، أو حتى محاولة مؤسسة الرئاسة البائسة لتجميل صورتها باستضافة «الأستاذ» فى حضرة د.«مرسى»، وغلق صفحة الستينيات.. الأزمة فى توقيت اللقاء بعد أن أعطت كل القوى السياسية والثورية والجماهيرية ظهرها لأى حوار مع الرئاسة وتوابعها من التيار الإسلامى، بعد أن أريقت دماء، وأزهقت أرواح، وسقط شهداء ارتقت بتصرفات الرئاسة من مرتبة «الخطأ» إلى «الخطيئة» التى لا تغتفر حسب وصف هيكل نفسه!
سيد قطب .. وما ادراك ما الستينات
متطوعا أعطى ظهره لتاريخه ليهمس فى أذن الرئيس بالحل الذى يخرجه من المأزق.. عارضا خدماته المجانية وملازما للرؤساء بعد أن حرم منها فى نهايات عهد السادات وطوال عصر مبارك فعاقبهما بسياط الكلمات.. الفرصة الناهزة أعمت عينه عن رشد الطريق للعودة إلى المكانة المفقودة.. عبر بسيارته أنهار الدم ليدخل مجددا قصر الاتحادية، وألمحه يخرج لسانه للسادات ومبارك، وفى ذات اللحظة أسمع أنين «ناصر» فى مرقده!
ساعة امتدت لنصف آخر فى مناقشات وجلسات دردشة وفضفضة مكانها شط النيل أو أحد شواطئ الساحل والبلد تشتعل تحت أقدام شعبها وكل الأطراف تقف مشدودة على أظافرها.. همس فيها «هيكل» بنصيحة فارغة لمرسى بأن يجرى حوارا مع كل القوى السياسية فجاء الرد بعدها بدقائق بإلغاء لقاء القوى الوطنية الذى دعا له وزير الدفاع بعد أن تملصت منه الرئاسة وكان مقررا أن يحضره الرئيس.. ليخرج هيكل معقبا: «اللقاء جاء فى مجمله إيجابيا»!!
«هيكل» خان تاريخه وهو أمر يخصه.. أما أن يكون لقبه المفضل هو «الأستاذ» ويخون أحد تلاميذه «الحسينى أبوضيف» الذى فاضت روحه إلى بارئها على يد الإخوان فى نفس اللحظة التى كان فيها - من كنا نحسبه أستاذا- مع الرئيس الإخوانى دون أن يخرج من اللقاء ينعى أحد تلاميذه ويطالب بتقديم قتلته إلى المحاكمة «خطيئة» أيضا لا تغتفر، تخلع عنه رتبة الأستاذية وتجعله شريدا طريدا من الجماعة الوطنية بعد أن حاول أن يغسل سمعته العدائية مع الإخوان فى اللحظة الخطأ بالنسبة للوطن، والأفضل بالنسبة للجماعة!
عجيب موقفه من مسودة دستور.. انزعج لما طالعها، ورأى أنها لا تلبى الحد الأدنى من مطالب الشعب ثم يحضر بعد أيام ليتسامر فى الاتحادية ويعلن بعد ذلك للرئيس أنه اتخذ موقف المقاطعة السلبى.. تحرج أن يقول «لا» فى وجه «مرسى» صريحة على أمل أن يتكرر اللقاء والاستضافة فى القريب العاجل!
مبهورا أقف أمام جملته، حروفه المنمقة، وخطوطه الواثقة.. لكن هذا لا ينفى ملايين السنوات الضوئية بين عالمه وعالمنا.. بين رؤيته الجامدة وجموح الشباب الذى كفر بأصحاب الياقات البيضاء ممن انتهت صلاحيتهم السياسية.. يحافظ الأستاذ على لياقته الذهنية بقراءة أبيات من الشعر القديم مع كل طلعة شمس، ولم يفكر مرة أن يقرأ الأمل والحسرة فى أعين الأجيال القادمة ليظل طازجا متوهجا كما عهدناه!
«محمد حسنين هيكل» هو أسير الأبنية السياسية القلقة، والمصمتة.. فهو لا يضع تعاريف محددة، ولا يفاضل بين النظم المختلفة، ولا يلتزم موضوعات البحث، ولا يتخذ مناهج واضحة، ولا يسير فى سياقات منتظمة، ولا يعمل فى اتجاهات متجانسة، وزاد من ذلك بل ضاعف منه أنه ممن عمدوا إلى احتكار الرؤية السياسية.. يداعب العامة ببريق الألفاظ.. يلاعب الجهال برنين القوافى.. يستثير الجماهير بزائف الشعارات!
جفت الأقلام وطويت الصحف.. لحظة الخروج من الملعب هى الأصعب.. واختيارها هو قمة التوفيق.. ومن مرت أمامه ولم يقتنصها عليه أن يدفع الثمن وهو يرى مشروعه يتراجع وانتقاده يزيد.. جاء اليوم لأثمن فيه رؤية انسحاب «أشرف بارومة» - رئيس حزب مصر الكنانة - من الحوار الديكور بين القوى السياسية الإسلامية المؤيدة للدكتور مرسى ومرسى نفسه معتبرا إياه تهريجا سياسيا ومسرحية هزلية، وبعدها انتفض وانتقد قصور رؤية هيكل وبحثه عن ذاته.. العبرة بالخواتيم.. وليس أسوأ من مشهد النهاية!