من النكسة إلى حرب أكتوبر انتهاء إلى ثورة يناير.. تراوحت مشاعر المصريين صعودا وهبوطا.. يأسا وأملا.. انتصارات وانكسارات شاركنا فيها «فولكهارد فيند فورد» عميد المراسلين الأجانب فى مصر بصفته مراسل ومدير مكتب «دير شبيجل» الألمانية بالقاهرة «إحدى كبريات الأسبوعيات الأوربية»، المراسل والكاتب الصحفى الكبير يقيم فى القاهرة منذ أكثر من 56 عاما عاصر خلالها المنعطفات والتغيرات المختلفة فى الأنظمة والحكومات وكذلك فى طبيعة البشر.. يتفاعل مع الأحداث والمخاطر والانتصارات التى تتعرض لها مصر بقدر كبير من الانتماء.. ومع ذلك ظل محافظا على حياديته التى تغذيها نظرته الثاقبة لمجريات الأمور، محتفظا فى ذاكرته بجزء كبير من تاريخ مصر بشخوصه وفنانيه وأدبائه وساسته.. حاورناه عن الروح المصرية التى عرفها فى مراحلها المختلفة والمخاطر التى تهددها والمشترك بين روح العبور ونصر أكتوبر وروح يناير ورؤيته لما بعد يناير. ∎ ماذا تبقى بداخلك من ذكريات حرب أكتوبر بعد كل تلك السنوات؟
- أتذكر المفاجأة والشك فى أن تبدأ مصر الحرب على إسرائيل حتى بثت الإذاعات الإسرائيلية نفسها نداءات استغاثة، وعندما كنت على الطائرة فى طريقى إلى طهران بعدها بأكثر من عشر سنوات فوجئت بموشى ديان فى الدرجة الأولى بالطائرة فجلست بجواره وسألته : عندما حدث العبور يوم السادس من أكتوبر هل فعلا إسرائيل لم تكن على علم بأنه سيحدث؟.. فرد بأنه قبل العبور بحوالى عشرين ساعة جاءتنا معلومات أفادت أن مصر على استعداد أن تقوم بمناوشات ولكنى لم آخذها على محمل الجد وأرسلت لأصدقائنا الأمريكان فردوا لا تخافوا لكن استعدوا فقط.. هذا الإصرار والاستعداد الضخم جدا لم يكن متوقعا لأن التخطيط الاستراتيجى المصرى كان عظيما وأعتقد أن السادات نجح فى إقناع إسرائيل وأكثرية أنصارها أمثال اللوبى اليهودى فى الولاياتالمتحدة بنواياه السلمية وسرعة تصريحاته والحرب مازالت على أشدها بأن مصر تقبل السلام مع إسرائيل على أساس حدود 67 بدون أى تنازل عن الأرض والنجاح الثانى أنه أقنع الأمريكان أنه على استعداد بعقد سلام مع إسرائيل على أمل أن تحذو سوريا والأردن حذوه.
لما قامت الحرب بألمانيا وقام الشعب بثورة عارمة وانتصرت بدون قتيل واحد لأن الجيش رفض ضرب النار.. رئاسة الجمهورية والشرطة والمخابرات رفضت الأوامر، جميعهم رفضوا وعندما سألوا المستشار الألمانى الشهير «ويلى برانت» الحائز على جائزة للسلام عن الوحدة الألمانية وأن هذا قد يحدث خللا فى التوازن رد بأنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح وهذا الشعور نفسه كان عندى عندما عبرت مصر وتجربتى فى الحياة أكدت لى صحة هذه المقولة فأى حلول عسكرية، غير عسكرية سياسية مهما كانت.. مبنية على ظلم لن تدوم.
∎ أجريت مع الرئيس الراحل أنور السادات أكثر من حوار بعد الحرب.. حدثنى عن تجربتك مع السادات؟
- أجريت أكثر من لقاء مع السادات.. آخر حديث أدلى به فى حياته كان لى فى فيلا على النيل.. قابلته يوم 2 أكتوبر وقتل بعدها بأربعة أيام يوم 6أكتوبر تطرقنا لأكثر من موضوع.. قلت له لقد عرفت من مصادر أن المخابرات حذروك من المجازفة وركوب القطار الملكى لزيارة مدينة المنصورة خصوصا أنك كنت بداخل عربة تحيى الجماهير فى المحطات.. ذلك لأنهم اكتشفوا أن هناك مجموعات إرهابية متطرفة ترغب فى اغتيالك.. فرد : «دول أولاد أنا أخرجتهم وآباءهم وإخوانهم من السجون.. دول أولادى ولو اختلفوا مع أبوهم من المستحيل أن يقتلوا أبوهم» وما حدث أن الأولاد قتلوا أبوهم بعدها بأربعة أيام.. وسألته أيضا فى هذا الحوار عن البابا شنودة وقلت له كيف تنحيه والقانون لا يسمح بذلك؟ فرد أن البابا كان يتصرف ضد مصلحة الوطن وأن النبوى إسماعيل أطلعنى على معلومات خطيرة جدا عنه فرديت عليه هل تعلم أنك ثانى رئيس مصرى فى تاريخ مصر ينحى بابا للأقباط الأول كان الخليفة الفاطمى سنة .1056 وسألته أنا حضرت مظاهرات يهتف فيها الإسلاميون المتشددون «لا مسيحى بعد اليوم.. لا نصرانى بعد اليوم» ألم تسمع بها؟ فلم يرد!!
لم يكن هناك أى تفاهم مع السادات فى حديثه الأخير على عكس الحوارات التى سبقتها بسنوات لم يكن كذلك فقد أجريت معه حديثا عام 1975 أثناء إعادة افتتاح قناة السويس بعد الدمار الذى لحق بها فى الحرب والذى حضره ابن شاه إيران وكان أكثر انفتاحا وقابلية للنقاش.
∎ لقد عايشت المصريين خلال 56 عاما وشاهدتهم فى ظل ظروف حكومات متعاقبة حتى ثورة يناير.. هل ترى أن روح المصريين التى سادت فى فترة الحرب اختلفت الآن وهل المد الإسلامى غير من طبيعة المصريين؟
- أنا وجهة نظرى أن التغيير ليس كبيراً وليس وجوهرياً.. أنا رأيى أن كل مصرى.. الذى يربى ذقنه والذى لا يربيها.. الذى مازال يعتز بتحية العلم والذى يطالب بإلغاء تحية العلم... كلهم لديهم مصر فى القلب أولا.والدليل فى تلك الأيام يعرض التليفزيون المصرى مشاهد العبور والانتصار ورفع العلم على أرض سيناء، اذهبى وانظرى لرد فعل الناس فى المناطق الشعبية والعشوائيات الملتحين وغير الملتحين ستجدى أن رد فعلهم واحد يبكون ويتفاخرون.. يعتز بمصريته وبلده هذه الصفة العامة.. أنا لا أعرف مصرياً واحداً ليس لديه انتماء حقيقى لبلده مهما كان تفكيره وتوجهه. الروح والفطرة المصرية مازالت سليمة عند المصريين روح أكتوبر لم تمحى ووقت اللزوم المصرى يستعيدها وهذا ما حدث فى ثورة يناير.. لذلك أنصح زملائى المراسلين الأجانب أن يدققوا جيدا فى الشعب بفئاته المختلفة، عمال وفلاحين ومهندسين وأطباء لأنهم سيجدونها فى النهاية روح واحدة.. روح المصريين أساسا سليمة إلى يومنا هذا ووقت اللزوم يتم استعادتها لتجد المصريين يقفوا وقفة واحدة.
∎ هل هناك تشابه بين روح أكتوبر وروح يناير؟
- روح يناير هى نفسها روح أكتوبر حيث مصر أولا.. الوطن للجميع والدين لله. لا خلاف على الدين.. فثورة يناير لم تقم لإنقاذ الإسلام.. فالإسلام بخير إلى أبد الآبدين وإنما قامت لإنقاذ مصر من الفساد. أنا تواجدت بالميدان طوال 16 يوما متواصلة لم يكن هناك شعارات.. وتلك الروح مازالت موجودة.
∎ إذن أنت لا ترى خطورة على هوية مصر والمصريين؟
- من تلك الناحية لا توجد أى خطورة.. هناك سياسيون «بغض النظر عما يرتدوه وعما يقولوه» يحاولون أحيانا بنجاح معين وأحيانا باستغلال هذه الروح الطيبة الأصيلة بتحويل شعارات الثورة إلى شعارات أخرى.. وعلى الرغم من أن الناس تعرف أن الدين الإسلامى لم يكن مضطهداً.. الإسلام بألف خير.. ولكن هناك من يحاول أن يغير مسار الثورة ويحاول خداع الناس.. ولكن أؤكد لك من خلال خبرتى فى حياتى الطويلة 56 عاما فى مصر أن مصر أكبر من كل هذا.
∎ وكيف تقيم الجدل حول هوية مصر فى ظل سيطرة الإسلاميين على الدستور؟
- هذا الجدل وهذه المحاولات ستستمر لفترة قصيرة.. ولكن سيظل المصرى يتحلى بروح الإسلام السمحة التى هى مع التآخى والرحمة والانفتاح فالرسول محمد قال اطلبوا العلم ولو فى الصين.. أعتقد أنهم فى تلك اللحظة يستغلون طيبة المصريين وفطرتهم المحبة للإسلام وللتدين والخطورة فى هؤلاء لأنهم يحاولون زرع الفتنة.. فهناك شيخ معروف قال فى إحدى القنوات الفضائية «يحتم علينا أن نتعايش مع النصارى ولكن لا أحد يمكنه أن يجبرنا أن نحبهم أو نكن لهم الود» هذا الشخص ذكى ويعرف لغات أجنبية وسافر فرنسا وجاب بأوروبا ويعلم جيدا ماذا يقول.. هناك مخطط ولكنه ليس لخدمة الإسلام بالتأكيد فالرسول محمد تزوج من سيدة مسيحية مصرية وهى ماريا القبطية ولم تسلم ولم يجبرها الرسول على ذلك ولم تكن هناك مشكلة.. فبالتأكيد هم لا يعلموا أكثر من الرسول وليسوا أكثر إسلاما من رسول الإسلام.. هذه هى مشكلتنا؟
عندما عبر الجيش المصرى فى 6 أكتوبر 1973 الإسرائيليون وهم يتصدون لهم لم يفرقوا بين مصرى مسلم ومصرى مسيحى ومصرى بهائى.. وأى أحد يحاول أن يقنع المصريين بضرورة تمييز فئة عن فئة أخرى فى المجتمع فهو مسىء لدينه وإذا قدم مفهوم الدين للناس بهذه الطريقة فهو مفهوم مخطط له للسيطرة على عقول البسطاء وزرع الفتنة.. ولدينا نموذج العراق التى تحررت من نظام ديكتاتورى ومع ذلك فالطائفية تتحكم فيها بشكل عنيف ولا يمر يوم إلا ونسمع عن ستين أو سبعين قتيلا من سنين بين السنة والشيعة.. وعلينا فى مصر أن نعتبر من ما يحدث فى العراق.
∎ كيف تقيم حكم الإخوان المسلمين فى مصر الآن؟
- التاريخ سيحكم.. ولكن لن يصح فى النهاية إلا الصحيح.. مصر دولة مدنية منذ حكمها محمد على سنة 1805 حتى 2012 أى207 سنين ومصر دولة مدنية ولا أرى داعٍ ولا مصلحة ولا فائدة من قلب هذا النظام الأساسى.. أما التفاصيل قد نتحدث عنها.. ولكن تغيير هذا النظام لمصلحة بعض المغرضين أو الجهلة فهذا عبث فمصر فى تلك الفترة تقدمت أكثر من أى دولة عربية أخرى ولا يعقل أن يوقف أحد هذا التطور.
∎ هل ترى أن مصر على مشارف دولة دينية؟
- لا أرى ذلك رغم شواهد ذلك فى بعض الأحيان.. هناك أسفنجة كبيرة تمتص وتمتص وعندما تتشبع الإسفنجة المصرية الأصيلة مرة واحدة سترفض ما هو زائد عنها ولا يمثلها.. عشرتى لمصر والمصريين لمدة 56 عاما واحساسى بروح المصريين هى ما تجعلنى متأكد من أن مصر ستبقى مصر.. ولذلك أنا ضد كل من يقود حربا معلنة وغير معلنة على الروح المصرية الأصيلة الطيبة والتى هى السبب فى تقدم مصر عن الدول العربية الأخرى.
∎ إذا كنت لا ترى خطر حكم دينى فما الخطرالأكبر الذى يهدد مصر فى الوقت الحالى من وجهة نظرك؟
- الشىء الذى يقلقنى ويخيفنى على مصر الآن هو الوضع الاقتصادى.. رغم الوعود بالقروض وغيرها من الأشياء التى لن تتم بالقدر المطلوب وبالسرعة اللازمة لذلك أخشى من تردى الأوضاع الاقتصادية خاصة بالنسبة لمحدودى الدخل والفقراء وكذلك البطء الشديد فى عملية تحقيق مبادئ العدالة الإجتماعية فأنا أرى الغنى يزداد غنى والفقير يزداد فقرا.. فأخشى من تدهور الأحوال الاقتصادية وأتمنى أن أكون مخطئا.
∎ إذن أنت لا ترى أن قرض صندوق النقد الدولى لن يحل من الأزمة فى شىء؟
- فى أحد حواراتى الصحفية مع مبارك كنت أسأله عن شروط قرض صندوق النقد الدولى فرد علىَّ : أنا أسميه صندوق «النكد» الدولى وليس «النقد» وذلك لأنه فعلا يضع أحيانا شروطا قاسية ويطلبون مقابل تلك القروض أشياء صعبة جدا وتسبب أحيانا تعويم العملة وحدوث تضخم مالى ورفع الأسعار بطريقة مباشرة وغير مباشرة على السلع المختلفة والبنزين والسولار وحدوث التضخم المالى خطير جدا لأنه يتسبب فى رفع الأسعار. كل هذه الأشياء ستحدث تحت مسميات.. نهضة وإصلاح وأنا لا يهمنى المسميات ولكن ما يهمنى هو أن يوضح صناع القرار بنود الاتفاق وشروط القرض للرأى العام وللشعب كله و يجب على القوى الفاعلة -بخلاف الحكومة - من أحزاب وقوى سياسية وشرائح المجتمع المصرى المختلفه أن تتفق على مبادئ عاجلة للحيلولة دون تردى الوضع الاقتصادى والمعيشى.
∎ كيف ترى دستور مصر القادم فى ظل سيطرة الإسلاميين على الجمعية التأسيسية لكتابته وطرح بعض المواد المقيدة للحريات؟
- الدولة التى ترفض حقوق الإنسان كاملة بحذافيرها تدفع الثمن.. والباقى تفاصيل.