لم يكن تصريح صفوت حجازى أن حلم تحقيق الدولة الإسلامية بات وشيكا، وأن الدولة الإسلامية سوف تتخذ شكلها الحتمى بخلافة إسلامية رشيدة، ولم يكتف صفوت حجازى بهذا لكنه تنبأ بأن عاصمة الخلافة لن تكون فى القاهرة، ولكن العاصمة المرتقبة ستكون فى القدس! زد على هذا أن المرشد السابق مهدى عاكف فى نوبة صراحة قال قولته الشهيرة: «طظ فى مصر»، باعتبار أن مصر - فى تقديره - لن تكون سوى ولاية من ولايات الإمبراطورية الإسلامية.
وقرأت أن إسماعيل هنية زعيم حماس كان مرشحا لتولى منصب المرشد العام للإخوان! وفى لقاء تليفزيونى قال أحمد المسلمانى، محللا لحديث محمد مرسى مرشح الجماعة لانتخابات الرئاسة، ومشيدا به، إن المرسى - أكثر الله من أمثاله - تحدث عن حلمه بالخلافة، ويحلم أن يكون مقرها -بارك الله فيه - سيكون فى القاهرة، وأن الخليفة سيكون مصريا، الأمر الذى أثلج صدر المسلمانى ونزل بردا وسلاما علينا. وطمأننا أنه لن يكون خليفتنا إندونيسيا أو ماليزيا.
الحقيقة أن هذا الهراء عن الخلافة كلام ما أنزل الله به من سلطان وناتج عن خلط ساذج لمعطيات الحس التاريخى، وهى تشبه - فى تقديرى - أن تهب مجموعة من حمقى اليونان أو من ضعاف العقل فى روما، يسعون بجد إلى عودة الأمجاد الإغريقية، أو إلى بعث الإمبراطورية الرومانية بفيالقها الجبارة وبأباطرتها العظام، تلك الدعوات المستحيلة التحقق، ما هى إلا درب من دروب الأوهام، فالزمان لا يعود إلى الخلف، والعجيب أن المرشحين من تيارات الإسلام السياسى - ولهم فرص عالية للفوز وهذه هى الأعجب - لديهم قناعات راسخة بضرورة عودة الخلافة الإسلامية، وكتبوا بوضوح إن: «الشعب يريد الخلافة الإسلامية» ليضربوا بها عصفورين بحجر واحد، أولها أن الخلافة واجب شرعى ! وثانيها هى بناء إمبراطورية إسلامية.
وقارئ التاريخ سيعلم أن الخلافة الإسلامية، التى امتدت من أبوبكر الصديق حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية، لم تكن سوى تاريخ من الدماء، إذا ما استثنينا تاريخ الخلفاء الراشدين - ثلاثة منهم سفكت دماؤهم -وعمر بن عبدالعزيز، سيجد قارئ التاريخ أن الخلافة الإسلامية لم تكن سوى ميراث دموى يشيب من أهواله الولدان، أما أن الخلافة واجب شرعى، الحقيقة أن المفكر الإسلامى الراحل الكبير على عبدالرازق فى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» أكد أن الخلافة ليست من أركان الشريعة.
ولدعاة الخلافة أحب أن أذكرهم بما لا يعد أو يحصى من المحن والأهوال التى يشهد عليها التاريخ من جراء الحكم الذى ادعى الخلافة، كانت محنة أو نكبة البرامكة واحدة من تلك المحن، وبرغم بشاعتها إلا أن هناك ما هو أكثر بشاعة منها.
فى زمن هارون الرشيد، الذى كان يخاطب الغمام قائلا : أمطرى أنّى شئت سيأتينى خراجك، يذكر التاريخ كيف ارتفع نجم وزير الرشيد، والذى كان يدعى «جعفر البرمكى» والذى أصبح الرجل الثانى فى الإمبراطورية، وتولى أقارب جعفر وأتباعه أرفع المناصب، واقتنوا القصور الفاخرة والضياع الشاسعة والجوارى والخدم والحشم وامتلكوا الأرض ومن عليها، وفجأة وبدون سابق إنذار، انقلب الرشيد على وزيره، وحلت على البرامكة لعنة دموية، الأمر الذى عرف تاريخيا بمحنة البرامكة، وتضاربت الأقوال فى الأسباب التى أوغرت صدر الخليفة على وزيره الأول، فمن قائل: إن جعفر البرمكى وقع ضحية حسد ومؤامرات البلاط ووشاياتهم، ومن قائل إن جعفر تجاوز الحدود حينما تجرأ وأحب الخيزران شقيقة الخليفة، تعددت الأسباب ودفع أبوجعفر رأسه ثمنا لشىء ما جلب عليه نقمة مولاه الخليفة الإسلامى الشهير هارون الرشيد وكما قال البياتى: «مولاى لا غالب إلا الله» فآه ثم آه.
أما عن قيام الخلافة الإسلامية فى الانقلاب الدموى المعروف بقيام الدولة العباسية، فحدث ولاحرج، فمؤسس الدولة نفسه هو «أبوالعباس» الذى من كثرة ما سفك من دماء الأمويين، وهم عرب أيضا ومسلمون بلا جدال، وهم بنو أمية الذى أطلق عليهم الفيلسوف الألمانى «إشبنجلر» الأرستقراطية القرشية الطروب، سمى أبو العباس ب«السفاح»، ومن شدة ما ارتكب من مذابح فى الأمويين، أصبح لايعرف إلا «بأبى العباس السفاح»، ولن نذكر أن أحد أشهر ضحايا أبوالعباس كان بطل الثورة وقائد جيوش العباسيين، أبومسلم الخراسانى، وكما قتل عامر رفيق ناصر فى الثورة قتل أبوالعباس قائد قواته غدرا وعدوانا ومن النوادر التى تروى عن أبوالعباس، تلك الوليمة الدموية التى أولم أبوالعباس ضيوفه، ووضع الطعام والسماط فوق أغرب مائدة فى التاريخ، التى كانت مكونة من جثث ضحاياه من بنى أمية، قتلهم وغطاهم وأولم فوق جثثهم، وراح يتناول الطعام على موسيقى تتصاعد نغماتها من أنين القتلى وهم يحتضرون وهذا واحد من الخلفاء، أما الخليفة يزيد بن معاوية بن أبى سفيان قاتل الحسين سيد الشهداء، راح الخليفة السكير الفاسق، يعبث بالحربة بها، وذكره البعض بأن هذه الرأس الغالية، كان رسول الله يقبلها وما أذكره من بشاعات الحكم الاستبدادى المسمى بالخلافة هو غيض من فيض.
أما عن الخلافة العثمانية، وهى آخر خلافة فى تاريخ الإسلام، فكابدت الإنسانية منها الأهوال، وكان اللورد كرومر عميد الاحتلال الإنجليزى فى مصر، حينما يتململ المصريون من الظلم، كان كرومر يهددهم بعودة العثمانلى، هل أذكر دعاة الخلافة بأن السلاطين العثمانلى لم يكن الواحد منهم يتورع عن قتل إخوته، وربما قتل أبناءه حرصا على العرش السلطانى المخضب بالدماء.
ولكى نرى ونحيا تفاصيل الحياة فى فترة زمنية ما علينا بالأدب، ومن خلال ثلاثية محفوظ، سنستطيع أن نعيش الحياة المصرية بأدق تفاصيلها فى فترة ثورة 91 وما تلاها، وعلى نفس النهج أستطيع رؤية إمبراطورية الخلافة العثمانية، من خلال عمل روائى مبدع للكاتب اليوغوسلافى الكبير إيفو أندريتش، الذى أبدع رائعته التى حصل بها على نوبل، حيث يرصد بعين الفنان، الأهوال والمحن التى تعرضت لها بلاده التى وقعت - لعدة قرون- تحت الاحتلال العثمانلى.
فى رواية جسر على نهر درينا، لن أصف إلا ذلا والظلم الأليم الذى كابده أهل البلاد من الاحتلال الغبى الشنيع، ولكن سوف أكتفى بالوصف التفصيلى، للإعدام على الطريقة العثمانلى التى تم تنفيذها على مواطن من أهل البلاد، قرر المتمرد على الإذلال العثمانلى، ووقع المسكين فى شر أعماله حينما ضبط متلبسا بتخريب الجسر التى قرر الصدر العظم بناءه بالسخرة وتحت ضرب السياط، جن جنون عابد أغا مندوب الصدر الأعظم واللص الكبير والذى كان يغطى سرقاته بالقسوة على أهل البلاد، وعندما وقع ذلك الباسل الذى راح يخرب الجسر، حكم عليه عابد أغا بالإعدام على الطريقة العثمانية بالخوزقة، وهى واحدة من الإنجازات الدموية السادية التى تعكس بشاعة أهل الخلافة الإسلامية من العثمان.
يصف إيفو أندريتش كيف يقيد الضحية ويلقى به على الأرض، ويأتى إخصائى - عشماوى الخوزقة - فيبدأ بتقييد الضحية على عمود من ظهره، ثم يلقى به على الأرض، وبعدها بواسطة خنجر قصير، وبعد أن يباعد مابين ساقى الضحية، ويوسع بالخنجر فتحة الشرج! وبعدها يدخل الخازوق وهو وتد خشبى دقة دقة ويغوص الوتد مدبب فى الإست، وبعدها بواسطة مدق خشبى، يبدأ فى دق الوتد فى جسد المعارض السياسى.
ليخترق الأحشاء، دقة دقة، وينتظر الجلاد ليرى كيف يسير العمل، ليعود إلى الدق الفنى، ويستمر حشر الخازوق فى الأحشاء، وهاهو الوتد يظهر أخيرا كنتوء مدبب فى الكتف، فيشق الجلاد الجلد بالخنجر ويظهر الوتد وقد اخترق الأحشاء كلها فيدخل من الإست ويخرج من الكتف، ويحمل المعارض المخوزق من الأرض، أما براعة المنفذ فتتجلى فى أن يجعل الوتد يتحاشى اختراق الأعضاء الحيوية مثل الرئة أو القلب الأمر الذى قد يعجل بالوفاة، وينتقل المخوزق إلى أعلى نقطة بالبلدة وعلق عليها ليراه القاصى والدانى، وظل المسكين يحتضر ثلاثة أيام، ليكون عبرة لأهل البلدة، وليروا بأم أعينهم عاقبة التمرد على الخلافة وعلى دولة الخلافة.
هذه هى مجرد لمحات قليلة من نهر الدماء المسمى بتاريخ الخلافة الإسلامية، حتى أصحابها الأتراك تنصلوا منها، وفروا منها فرار السليم من الأجرب.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.