ألقت الصراعات القائمة بين الفرقاء بظلالها المتباينة على مشهد انتخاب البابا البطريرك المنتظر، وطال ما كتبته على صفحات مجلة روز اليوسف، السبت 12/5/2012 تحت عنوان «انتخاب البابا من الأساقفة باطل» تأييداً واعتراضاً، ولم يكن هذا بغريب خاصة عندما يتصادم ضبط قواعد الاختيار لهذا الموقع السامى مع أحلام وطموحات البعض، ويزداد الأمر دقة فى لحظة ملتبسة ومرتبكة بآن. حتى إن البعض توقف كثيراً أمام مفردات لغة المقال وكأنه لم يعتد على طرح خارج البيانات الرسمية ويخاصم ما لم يدركه أو يستسيغه، وراح البعض يشكك لحساب فصيل بعينه من المرشحين فى دقة ترجمة النصوص القانونية التى لو تم تفعيلها لما كان لهم مكان فى سباق الاختيار. ولعل هؤلاء يعودون إلى مرجع عمدة فى توثيق القوانين المسكونية هو كتاب «مجموعة الشرع الكنسى قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة» الصادر عن كنيسة إنطاكية سوريا، وترجع أهميته إلى اتباعه الطرح المقارن المدقق والمتبوع بدراسة أكاديمية لكل المجامع المسكونية والمكانية التى استند إليها وتحليل كبار المتخصصين من العلماء اللاهوتيين والقانونيين الثقاة، ويملكون ناصية اللغات القديمة وترجماتها.
وقد ضم هذا المرجع كل المجامع المسكونية بما فيها ما لم تعترف به كنيستنا خلقيدونية مثالاً ولكن تبقى القاعدة الكنسية القانونية التى تقول فى شأن هذه المجامع إن الكنيسة ترفض فيها الرؤى اللاهوتية المخالفة لكنها تسترشد بقراراتها التنظيمية خاصة عندما لا تختلف مع ما تقرر قبلاً فى المجامع المعترف بها.
وعندما تعييهم الحيلة يفترضون ما لم أتطرق إليه مثل التشكيك فى قانونية تولى قداسة الأنبا شنودة مهام البابوية وهى محاولة ساذجة لاستنفار الشارع القبطى ضد الكاتب، فى إعادة إنتاج لمحاولة ذكرها الكتاب المقدس حين سألوا رب المجد عن الجزية المفروضة من قبل المحتل الرومانى ومدى قانونية الالتزام بها.
ولعلهم يعودون للظرف التاريخى الذى صدر بسببه قانون عدم جواز انتقال الأسقف من مدينة صغرى إلى مدينة كبرى والصادر عن مجمع القسطنطينية المسكونى 381 م. تصحيحاً لخطأ ارتكب بانتقال القديس غريغوريوس أسقف سيزيما إلى كرسى القسطنطينية الرسولى ليصير بطريركاً عليها بالرغم من تفوقه وقداسته وكفاءته وبالرغم من موافقة مجمع كنيسة القسطنطينية على هذا النقل، ويحسب لهذا القديس انصياعه لقرار المجمع المسكونى وعودته إلى كرسى مدينته سيزيما، وهنا يجدر بنا أن نذكر ما قاله القديس كبريانوس فى رسالته 72 : 23 ليس معنى أن خطأ حدث فى وقت ما أن يُسمح بأن يتكرر هذا الخطأ فيما بعد.
وفى كنيستنا القبطية الأرثوذكسية نرصد أكثر من موقف فى ذات الاتجاه:
1 قرار المجمع المقدس المنعقد بالإسكندرية عام 339 م. باعتبار انتقال أسقف إلى إيبارشية أخرى بمثابة خطية «زنى».
2 قانون أصدره المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى أثناء حبرية البابا خائيل الأول البابا ال 46 «743 766» صرح فيه بقوله: «السيف أو النار أو الرمى إلى الأسد أو السبى فما يقلقنى، ولست أدخل تحت حرمى الذى كتبته بخطى وبدأت به بأن لا يصير أسقف بطريركاً.. فكيف أحلل اليوم ما حرمته بالأمس، وما أنكرته بالأمس أرضى به اليوم».
3 المجمع المقدس عام 1865 أصدر القرار التالى: «لا نسلم ولا نسمح قط للكهنة وشعب الكرازة المرقسية بحل وتعدى الحدود الأبوية، وكل من يطلب هذه الرتبة البابوية من الأساقفة أو المطارنة أصحاب الكراسى أو من سعى فيها أو رضى بها، أو أحد سعى له فى شأن يطلبونه لها كاهناً أو رئيس كهنة أو علمانياً يكون محروما».
4 أن ثمة قواعد كنسية صاغتها مواقف تاريخية عديدة وأدبيات كنسية متعددة، واحدة من تلك القواعد أن سيامة أسقف الإسكندرية بالضرورة تأتى سيامةً بكراً أى لم تكن قد وضعت عليه اليد قبلاً كأسقف، لأنه ما أن يسام أسقف الإسكندرية حتى يكتسب تلقائيا وفى آن واحد لقب رئيس الأساقفة، والثانية أن الكنيسة لا تعرف ترقى الأسقف ليصير رئيس أساقفة بل إنه حال رسامته أسقفا للإسكندرية يكتسب بسبب خصوصية مركزه لقب رئيس الأساقفة أو أب الآباء بحسب نيقية.
ويبدو أن بيننا من يرفضون أن يكون الروح القدس هو الذى يقود الكنيسة، فيريدون قائدًا على شبه شاول كملوك الأمم، ولعلهم يستوعبون رد الله على صموئيل النبى حينذاك: فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب فى كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم.. فكلم صموئيل الشعب الذين طلبوا منه ملكا بجميع كلام الرب وقال هذا يكون قضاء الملك الذى يملك عليكم يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه فيركضون أمام مراكبه ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده ويعشر زروعكم وكرومكم ويعطى لخصيانه وعبيده ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله، ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدا فتصرخون فى ذلك اليوم من وجه ملككم الذى اخترتموه لأنفسكم فلا يستجيب لكم الرب فى ذلك اليوم (سفر صموئيل الأول فصل 8).
وربما يحتاجون لمعرفة مهام البابا البطريرك الراعى.. قيادة النفوس فى طريق الأبدية.. ولعلهم يدركون الحقيقة الكتابية.
«بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء. رسالة القديس بولس الأولى إلى كنيسة كورنثوس فصل».
وقد اندهش بعض من لم يخرجوا خارج أسوار الكنيسة ليشتبكوا مع تضاريس العلاقات مع السلطة الحاكمة، ويظنون أنهم يعيشون فى جزيرة منعزلة، فى طوباوية مفارقة للواقع المعاش، اندهش هؤلاء حين ذكرت أن القرعة التى ابتدعتها لائحة 57 تمثل باباً لتدخل ما من هنا أو هناك، وأحيلهم إلى كتاب «خريف الغضب» للأستاذ محمد حسنين هيكل وهو أحد الفاعلين فى المطبخ السياسى فى عصر عبدالناصر والمرحلة الأولى فى حكم السادات ويحللون شهادته عن هذا الشأن.
ولأنهم منكفئون على ذواتهم فبالقطع لم يقرأوا مشروعنا الذى قدمناه عام 2008 كتيار علمانى لقداسة البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث بمقترح لائحة جديدة تعالج العوار القانونى الكنسى المحتشدة به لائحة 57 وفى المذكرة التفسيرية لها وفيما يتعلق بالقرعة الهيكلية المقحمة على آلية الاختيار طالبنا بإلغاء نظام القرعة الهيكلية لأسباب عديدة أهمها: عدم اتساقها مع فلسفة الانتخاب بل وإهدارها لها.
- عدم قانونيتها، فالمفترض أن تُجرى بين متساويين يدق التفريق بينهما وهو ما لا يتوافر فى حالة المرشحين للكرسى لتباين الأصوات الحاصلين عليها، والاستناد إلى واقعة اختيار متياس الرسول لا محل له إذ كانت الجماعة المسيحية الأولى حتى تلك اللحظة تتبع الأنساق اليهودية قبل حلول الروح القدس يوم الخمسين، ولذلك لم تعد بعد تأسيس الكنيسة واحدة من قواعدها المنظمة، وهو ما يؤكده الرسول بولس مرارًا، التشاور مع شعب الكنيسة والإجماع على رأى بقيادة الروح القدس.
أنها لم تتبع فى الكنيسة على مدى تاريخها إلا خمس مرات وفى عصور حديثة ولأسباب مختلفة فلا ترقى لأن تكون قاعدة يقاس عليها.
- التعارض مع قوانين الرسل التى تؤكد فكرة قبول الله لمن اختاره الشعب «فإذا قبلوه جميعا قبله الله- 1 قوانين الرسل- المجموعة الثانية- ق52». - عدم تحصنها فى مواجهة تدخلات غير معلنة مما يشكك فى مصداقيتها وهو ما فصلناه آنفاً. ويبقى أننى أتفهم هذا الانزعاج من طرحى لأنه يضع المنزعجين أمام حقيقة يحاولون أن يدحضوها حتى يتممون سعايتهم ويحققون طموحاتهم حتى لو جاءت على حساب الكنيسة وسلامها.∎