دعونى أشارككم تجربة ، قد تكونون عايشتموها بأنفسكم، وتلمسونها بأيديكم. تجربة أن تصادف فتاة فى بداية العشرينيات مثلاً تتسم بالنضج والحيوية والثقة والمعرفة والانطلاق والحماس، فتاة تبهرك بكل المقاييس وهى تتحدث وتجادل برأيها وتناقش وتحلل.. وتجربة أن تصادف فتاة مراهقة قد لا تتجاوز الثامنة عشر مثلاً، فتصدمك شخصيتها أو تشفق عليها من فرط الطفولة التى تعانيها تلك الفتاة التى تعيش وهى منعزلة عن سنها وعن التطور الذى من المفترض أن يواكب شخصيتها، فتاة لا تعرف عن الحياة سوى عالمها الصغير الضيق جداً، لا تمارس أية اهتمامات سوى مشاهدة المسلسلات التركية ومناقشتها ومتابعة حلقات الإعادة ومن إدمان الفيس بوك والاستماع إلى الأغانى وقراءة أخبار النجوم على الإنترنت، وهى أمور بالمناسبة لا أعترض عليها ولا أهاجمها ولكننى واحدة من الناس تشعر بالشفقة على الفتيات المسجونات بداخل هذا العالم فقط. التجربتان مختلفتان، والواقعان مختلفان أيضاً!! قد يتساءل البعض.. المقارنة بين الفتاتين ليست عادلة لاختلاف الأعمار؟ والحقيقة أن هذه المقارنة مقصودة تماماً، حيث إن الفرق بين فتاة عمرها 22 عاماً وهى نموذج حقيقى وصادفته بنفسى وبين فتاة لم تتم عامها الثامن عشر كان كبيراً ومذهلاً لا يسفر أبداً عن أن العمر الحقيقى بينهما لا يتجاوز أربعة أعوام ولكن الفرق بين الشخصيتين قد يجبرك أن تقول إن الفرق الإدراكى والنفسى والمعرفى بينهما يتجاوز عشر سنوات على الأقل. هذا هو ما جعلنى أقول .. إن فرق الشخصيات ، وبمعنى أدق فرق بناء الشخصيات بين فتاة وأخرى هو الذى يحدد عمرها الحقيقى، هذا البناء، وحجر الأساس هذا مرجعه الطبيعى من وجهة نظرى هى الطريقة التى نربى بها «بناتنا». إما أن نربى فتاة «قابلة للكسر»، وإما أن نربى فتاة مرنة بها كل مواصفات الصلابة والقوة!! فرق بين أن نربى فتاة «مغلفة داخل سوليفان» وبين فتاة تعرف كيف تتنفس الحياة، فتاة وجدت من يساندها ويعلمها كيف تتنفس أكسجين الحياة وتملأ رئتيها بالهواء الصحى بدلاً من أن تجد فتاة نشأت داخل «صوبة» مسدودة فتحات التهوية بها ، فإذا بها تموت وتذبل رغم أن الهدف الأساسى لمن يرعاها هو أن يحتفظ بابنته فى أفضل مجال صحى. دون إطالة فى الفروق النظرية، دعونى أشارككم التجربة الواقعية، وهى أننى أثناء حضورى لدورة تدريبية تناقش «كيف نغير من أنفسنا؟» استمعت إلى فتاة لم تتجاوز الثانية والعشرين، تتحدث بمنتهى الثقة والتحرر من داخلها من أية قيود معطلة، الكلمات متدفقة وبسيطة وتخرج من القلب بصدق، جملها مرتبة وروح الدعابة التى أضحكت الحاضرين كثيراً تؤكد أن شخصية الفتاة «منة» شديدة المرح والبساطة. تحدثت عن خبراتها فى مجال التغيير، وكيف أنها تدربت على أن تغير من أنماط كثيرة فى حياتها وفى أفكارها بعد أن خاضت مجال عمل ما، أكسبها مهارات شخصية رائعة، فاجأتنى الفتاة الجميلة عندما قالت أمام مائة شخص تقريباً إنها المرة الأولى التى تتحدث فيها أمام جمهور تحكى خبرات شخصية لها! لقد نالت الفتاة تصفيقاً وتحية وكانت تستحق انبهار الكثيرين بها وأنا منهم، والحقيقة أن أول ما خطر ببالى هو «يا فرحة أهلها بها»!!، وبعد أن دارت الجملة فى ذهنى، أدركت أن ما فعلته منة قد يكون بسبب الأهل أنفسهم، وقد عرفت أن هذه الفتاة صديقة أهلها، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومحتوى حقيقى وليس كليشيهاً سطحياً. هذه الفتاة التى عاشت مع أهلها تناقش وتحلل ويؤخذ برأيها ويحترم رأيها، فتاة تعلمت مسئولية الكلمة والرأى والاختيار، وعندما تحدثت عن هذا لم يكن مجرد حديث عابر ولكنه كان خلاصة حياة عاشتها بنفس الكيفية مع أسرتها التى علمتها التغيير دون أن تطالبها يوماً بأن تتغير، فتاة تعرف المواجهة، لأنها تعلمت ألا تخاف المواجهة وأن تتحدى مخاوفها. قد لا يكون الأهل متخصصين فى مجال السلوكيات والتنمية البشرية لكى يدركوا أن ما فعلوه بابنتهم كان خير استثمار، ولكن الوعى التلقائى والجهد الحقيقى فى الحب والتربية هو الذى ينتج هذا النموذج الرائع من الأبناء. ألم أقل لكم إن الفرق كبير بين فتاة تعرف كيف تطور شخصيتها للأفضل وأدركت قيمة أن تتغير فى الوقت المناسب لما هو أكثر فائدة لها وبين فتاة ظلت حبيسة الطفولة واللاتطور واللانضج، والحقيقة أن المسئولية لا تقع على عاتق هذه الفتاة وحدها، إنما المسئولية تقع على عاتق الأسرة التى ساهمت فى «وقف النمو النفسى والإدراكى لهذه الفتاة». لا تشتركوا فى هذه الجريمة باسم الحب والرعاية والحماية، بل شاركوا فى صنع شخصيات بناتكم بالحب والمعرفة وبتسليحهن بالذكاء والتطور والمرونة والثقة والحرية فى التعبير، علموهن أن يكن أنفسهن.