«الإعلام أخفي حقائق نكسة 67 حرصاً علي معنويات الجماهير..»!! توقفت طويلاً أمام هذه العبارة الغريبة التي صرح بها إعلامي قديم أصبح له منذ سنوات أكثر من برنامج تليفزيوني يدافع من خلاله عن حرية الرأي وخاصة رأيه!! في أكثر من محطة فضائية عربية!! معناه إيه الكلام ده..؟؟ يعني إيه بالضبط؟؟ هل الإنسان المصري في الستينيات كان رقيقاً وحساساً لايحتمل أن «نوجع» قلبه بالحقيقة.. أما المصريون النهاردة فقلوبهم ميتة وأحاسيسهم تبلدت ولا يهم أن نقول لهم الحقيقة وممكن كمان نضيف إليها شوية مبالغات وفضائح علشان يحسوا علي دمهم..؟؟ ورغم غرابة هذا المنطق.. إلا أنه أثار داخلي العديد من الأسئلة والمخاوف: هل من حق الجماهير فعلاً أن تعرف كل الحقائق..؟ أم أن علينا أن نحميها أحياناً؟؟ وأنا لا أقصد بالحقائق والمعلومات ما يدور حول أسرار الناس والنجوم ومن قتل سوزان تميم؟ وما اسم زوج سمية الخشاب..؟ ومن هو الإعلامي والد طفل المغنية قمر..؟؟ لأنها من اختصاص جرائد ومجلات الفضائح والنميمة.. ونشرها أو حجبها لن يضيف شيئاً إلي حياة الجماهير العريضة المهمومة بكفاحها اليومي من أجل لقمة العيش. ماهو حجم المعلومة التي نضعها بين أيدي الجماهير العريضة؟! سؤال قد يبدو في ظاهره بسيطاً وساذجاً.. إلا أن الفيلسوف «جون بول سارتر» طرحه منذ سنوات عندما قام الرئيس الروسي «خرتشوف» بفضح جرائم ستالين ونشرها للشعب فأثار بذلك الجماهير وأصابها بحالة من السخط والإحباط.. وكان تعليق «سارتر» في ذلك الوقت أن المستوي الاقتصادي والثقافي للمتلقي يلعبان دوراً هاماً في حجم المعلومات التي توضع أمامه.. وقد أثار هذا الرأي العديد من المثقفين الفرنسيين واندفعوا يؤيدون حرية الإعلام المطلقة.. وحق الجماهير في معرفة الحقيقة مهما كانت بشاعتها. ورغم أن ظهور الفضائيات والانترنت حسما قضية نشر الحقائق وأصبحت المعلومات بكل أشكالها في متناول الجميع.. إلا أن السؤال لم يتم الإجابة عنه فهذه الحرية التي لاتخضع لأي ضوابط وهذه المعلومات التي تقتحمنا من كل صوب خلقت ما يسمي «بالتنشج الإعلامي Lynchage mediatigue وهو تعبير متداول في الغرب بكثرة ويعني الشنق الإعلامي.. والتعبير له حكاية فقد كان هناك قاض أمريكي يدعي «وليم لينشج» دائماً ما يحكم بالإعدام في قضايا الزنوح سواء كان الزنجي مجرماً أو بريئاً دون أن يطلع علي الملفات أو يستمع للشهود.. وأصبح هذا التعبير يطلق علي من ينفذ فيه حكم الإعدام دون الاستناد إلي أدلة قوية.. وامتد هذا التعبير إلي الإعلام عندما يسعي لنشر أخبار دون التأكد من صحتها بهدف الفرقعة الإعلامية وعلي حساب أشخاص محددين.. والمشكلة أن بعض الصحفيين ومقدمي البرامج ينجرفون أحيانا إلي تيار «اللينشنج» Lynchage نتيجة لنقص الحقائق التي في حوزتهم.. وعدم بذل مجهود حقيقي للتأكد من صحة المعلومات.. أو لرغبتهم في تحقيق أي ضجة إعلامية حتي لو كان الخبر مشكوكاً في أمره المهم أن تتزايد أرقام التوزيع أو ترتفع نسبة المشاهدة أو تكبر مساحة الإعلانات.. وينسون عن قصد أو غير قصد أن المصيبة أكبر بكثير من مجرد محاولة جذب المشاهد أو القاريء والحصول علي حصة أكبر من الإعلانات.. فالإعلام يلعب دوراً هاماً في الحفاظ علي التوازن الاجتماعي والشعوب التي تتعرض باستمرار لرسائل إعلامية مشوشة ومتعارضة ومحبطة.. يعاني أفرادها من إحساس بعدم الرضا عن أنفسهم وعن حياتهم وعن الأخرين.. وليس لديهم أي أمل في المستقبل. وليس معني ذلك أن علي الإعلامي أن يخدع الجماهير ويصور لها الحياة بمبي في بمبي.. ولكن عليه أن يعي خطورة دوره وأهمية ما يكتبه أو يردده.. والتي تتجاور بكثير «الفرقعة الإعلامية» والنجاح الجماهيري المزيف. وأذكر للإعلامية الكبيرة «سناء منصور» جملة شديدة الذكاء لخصت فيها القضية وأجابت عن السؤال عندما سئلت عن الفرق بين مذيع الأمس واليوم.. قالت: «زمان كان أهم شروط التليفزيوني الناجح الشكل الجميل.. الثقافة.. والقبول الجماهيري.. أما اليوم فأهم شرط هو الاحساس بالمسئولية». ومعها كل الحق أن إحساس المذيع والصحفي بخطورة ما يقوله أو يكتبه ومدي تأثيره علي الملايين من المشاهدين هو الذي يصنع الفرق بين الإعلامي والمهرج.