لم يمنعهم حرمانهم من نعمة البصر من فن التصوير الفوتوغرافى وإن لم أكن شاهدت الصور التى التقطها هؤلاء الشباب المكفوفين ما كنت تصورت إمكانية حدوث هذه المعجزة.. ولكن كل يوم أتأكد من أن التصميم والإرادة لا يمكن هزمهما وهو المعرض الذى أقيم فى المكتبة المركزية بجامعة القاهرة وضم 50 صورة قام هؤلاء الطلبة الذين استخدموا باقى حواسهم واشتركوا فى ورشة عمل لتعلم فن التصوير بمساعدة معيدة فى كلية التربية النوعية وهى من لها الفضل فى طرح هذه الفكرة الجديدة. «كانت ورشة عمل لتدريب طلبة بكلية التربية النوعية بمثابة شرارة الفكرة» كما تقول ريهام أحمد المعيدة بالكلية بقسم الإعلام التربوى وتضيف ريهام: «كانت الدكتورة فيفى زلط - أستاذ التربية الفنية بالكلية - اقترحت إمكانية تخصيص مثل هذه الورش للطلبة المكفوفين بعدما لمسناه من تفوق وتركيز وقوة لباقى حواسهم فتحمست للفكرة وجمعت معلومات من الإنترنت خاصة أنه لا يوجد من يقوم بالتدريس لهذه الشريحة وعلمت أن هذه الفكرة موجودة فى الخارج وأيضا موجودة فى تركيا منذ فترة وصممت على إعطاء هذه الكورسات لأن التصوير فى صميم تخصصى واشتركت مع المكتبة المركزية لجامعة القاهرة فى الإعلان عن وجود هذا الكورس للطلبة وأكثر الطلبة إقبالا على أنشطة المكتبة للمكفوفين هم طلبة الإعلام ولأنى بمفردى أعطى هذا الكورس، فقد قبلنا عدداً قليلاً حتى يسهل علىَّ التواصل معهم، وبالفعل قمنا بالورشة المكونة من خمسة أفراد ودرست لهم التصوير نظريا من حيث أنواع اللقطات والزاوية تقريبا بنفس أسلوب الشرح للطلبة الأسوياء مع الاعتماد على اللمس وباقى الحواس كالسمع لمعرفة مكان الهدف المراد تصويره وعلمتهم كيفية إمساك الكاميرا الديجيتال وزر أقصى اليمين لالتقاط الصورة والزر المسئول عن الزووم حسب موقع المصور مما يراد تصويره وخرجنا فى مواقع للتصوير فذهبنا لحديقة الأزهر والأهرامات والمتحف الزراعى وساعدتهم فى إمساك الكاميرا أول الأمر وشرح المكان ووصفه لهم حتى تتكون عندهم الصورة فى خيالهم ويبدأوا فى معرفة الأبعاد على أساس اللمس أو الصوت كصوت «نافورة الماء مثلا» أو الوصف كوصف الهرم ارتفاعه تقريبا والمسافة بيننا وبينه والطالب يختار الزاوية التى يريدها للتصوير بناء على وصفى للصورة ثم يقوم بالتقاط الصورة بنفسه. وعن الصعوبات التى واجهتها ريهام أحمد تقول: «فكرة التخوف أول الأمر من هذه الفكرة الجديدة بالإضافة إلى أنى المتطوعة الوحيدة للقيام بهذه التجربة وعدم وجود مكان يدعم بشكل أساسى الموارد المالية الخاصة بهذه الورشة فقد استضافنا العام الماضى مركز سعد زغلول الثقافى وهذا العام المكتبة المركزية لجامعة القاهرة، ولكن نحتاج أن يتوسع الأمر أكثر من ذلك على يد رعاة لإمكانية تكرار الورشة واستقبال أعداد أكبر من الطلبة ، لأن ما لمسته فى هولاء الطلبة يفوق التصور من حيث البصيرة القوية وقوة الحواس حتى إنى لم أدخل على هذه الصور أى (photoshop) فوتوشوب حتى إن الطالبة رضوى عندما دخلت حديقة الأزهر وسمعت صوت النافورة طلبت منى أن تجلس على ركبتها لالتقاط صورة لها لأن الصوت يدل على أن النافورة فى مستواها وضبطت موقع التقاط الصورة بناء على وصفى لها». - مجتمع لا يعرف المستحيل «لم أكن أتوقع هذه النتيجة الرائعة» هكذا بدأ معى الحوار الدكتور شريف شاهين - مدير المكتبة المركزية بجامعة القاهرة - ويقول: «عندما اقترحت الأستاذة ريهام الفكرة أعجبت بها كثيرا خاصة أنها تزامنت مع رؤيتى لمعرض للوحات الزيتية لفاقدى البصر وكنت متحمسا لإقامة مثل هذه الأنشطة والمعارض بالمكتبة، لذا رحبت بفكرة ورش التصوير للمكفوفين ولم يتردد أى مسئول بالجامعة فى قبول الفكرة وتوفير الموارد المطلوبة من كاميرا التصوير ونفقات الرحلات ونشجع أى اقتراح لزيادة التواصل بين المكفوف ومجتمعه ومن احتكاكى بالطلبة المكفوفين أصبحت متأكدة أن هذا المجتمع لا يعرف المستحيل وقوته من جميع حواسه الأخرى وقاعة طه حسين مختصة بخدمة الطلبة المكفوفين ومجهزة ب 64 جهاز كمبيوتر لتحويل النصوص الرقمية لمسموعة لاستخدام الطلبة ليبحروا فى آفاق صفحات الويب وإنشاء صندوق البريد الخاص بكل منهم كذلك التعامل مع هذه المعرفة فى رسائل الماجستير والدكتوراة وكذلك أداء الامتحانات دون تدخل الوسيط البشرى. الدكتورة أمانى رفعت المشرفة على قاعة طه حسين لفاقدى البصر تقول: كانت الورشة مناسبة فى فترة نصف العام وأعلمنا الطلبة بموعدها وأخبرناهم فى فترة تواجدهم لأداء الامتحان وكان أكثر المتقدمين فى كلية الإعلام لارتباط عملهم بعد ذلك بالتصوير ولم نكن نتوقع هذا الإقبال الكبير حتى إن هناك طالبا أتى من الأقاليم خصيصا لحضور الورشة فى فترة الإجازة وبعد انتهاء الورشة التى استمرت أسبوعا أقمنا معرضا فى القاعة لعرض هذه الصور وتحت كل صورة شرح لها بطريقة برايل موجه للطلبة المكفوفين الآخرين فى فترة عقد سور الأزبكية فى الجامعة كنشاط ثقافى للقاعة هذا العام وبعد انتهاء فترة إقامة السور عرضنا هذه اللوحات أمام القاعة. وعن الأنشطة المستقبلية أكد كل من الدكتور شريف شاهين والدكتورة أمانى رفعت أن معرضا للوحات الزيتية سيقوم برسمها الطلبة المكفوفون بعد ورشة للرسم خلال الفترة القادمة. - أبطال التجربة أصحاب البصيرة صور لجامعة القاهرة ولأبى الهول وللورود أيضا قامت بتصويرها الطالبة مروة وعلى الرغم من أنها كفيفة فإن الصور تنطق بالبصيرة والدقة والإحساس بالجمال، تقول مروة: «أنا طالبة فى السنة الثالثة فى كلية الألسن وعلمت عن طريق المكتبة المركزية بجامعة القاهرة عن ورشة التصوير لأن أختى طالبة فى كلية الإعلام وتتردد على المكتبة وهى أيضا كفيفة وتحمست أنا وأختى لخوض هذه التجربة الفريدة التى لم أكن أتصور أنى سأنجح فيها وأحبها كل هذا الحب وقد يكون ما ساعدنا كمكفوفين هو تعودنا دائما على التخيل منذ صغرنا حتى تخيل الألوان ومدلولها وعندما بدأنا الورشة تعلمت نظريا ما هو التصوير وكيفية قياس الأبعاد وأخذ جهة معينة للتصوير واستخدام «الزووم» وتعلمت كيفية الإمساك بالكاميرا واستعمالها وهذا لم يكن صعبا فنحن نستعمل الموبايل العادى وما نحتاجه هو مرشد أول الأمر يشرح كيفية عمل الجهاز الذى ننوى تعلمه ثم نخزن ذلك فى ذاكرتنا ونستعمل الجهاز بعد ذلك بمفردنا، أما الصعوبة الحقيقية فكانت عندما نزلنا إلى مواقع التصوير وفيه نعتمد أساسيا على مدربتنا الأستاذة ريهام لشرح المكان الذى تتواجد فيه ثم تساعدنا على التخيل لأحسن جهة يمكن تصويرها فى المكان عن طريق شرحها لتفاصيل المكان وتترك لنا حرية اختيار المناظر وتحديد البعد الذى نريده فى الصورة وعندما يكون ما نريد تصويره جسماً ثابتاً يكون سهلا كما فى حالة المتحف الزراعى فقد قمت بلمس التمثال لمعرفة شكله وحجمه واخترت المسافة التى سألتقط منها الصورة وبالفعل التقطت أكثر من صورة بناء على توجيهاتها وأخذت وقتا لتثبيت الكاميرا لأنها ثقيلة إلى حد ما فقد كانت تتحرك أو تهتز أول الأمر عند الضغط على زر التصوير ولكن بالتكرار والمران أصبح الأمر سهلا، أما المناظر البعيدة فتوجيهاتها كانت أساسية وكنت أسألها عن بعدنا عن الهرم مثلا وارتفاعه وأشياء من هذا القبيل حتى أتخيل الصورة وأبنى قياساتى عند التصوير. وأنا سعيدة بهذه التجربة فيكفى أن أدخلها وأتعلم شيئا جديداً وحتى إن لم أعمل بالتصوير فيكفينى هذه التجربة الجميلة والمناطق الرائعة التى زرتها واستمتعت بتخيلها وشعرت بقدرتى على النجاح فى مثل هذا النشاط الذى قد يعتقد البعض صعوبته بالنسبة لظروف المكفوفين على الرغم من أننا نستطيع عمل أى شىء من مذاكرة أو طبخ ومساعدة فى أى عمل حتى فى تنسيق الألوان والملابس بناء على معرفتنا السابقة بكل لون والفضل بالطبع لوالدينا فمنذ الصغر تعودا إخبارنا بكل ما حولنا ووصفه لنا حتى الألوان ونخزن هذه المعلومات فى ذاكرتنا وننعش قدرتنا على التخيل الدائم. أما وليد فهو طالب كفيف يأتى من دمياط ويدرس فى كلية الإعلام بالقاهرة بالسنة الثالثة يقول وليد: «أنا دائم التردد على المكتبة المركزية وعندما علمت عن ورشة التصوير فى إجازة نصف العام صممت على دخولها وأصبحت أحضر كل يوم للمشاركة والفكرة مع غرابتها إلا أننى معجب بها جدا وأرى لها علاقة وثيقة بمهنتى فى المستقبل كإعلامى حتى وإن لم أكن مصورا فسأكون على علم ودراية بالتصوير عندما يرافقنى مصور فى تحقيقاتى ويكون لى رأى ووجهة نظر فى الصورة وأفهم ما أسمعه وأتصوره.. ولكن أرى أن الوقت غير كافٍ وأن الورشة كان لابد أن تمتد لفترة أطول من أسبوع واحد فقط مع أن مدربتنا الأستاذة ريهام علمتنا كل ما يمكن عن قيم الكادر على حسب المنظور والمسافة وساعدتنا فى زمن قياسى إلا أنى أتمنى أن تتكرر هذه الورشة ويصبح لها مستويات نتطور من خلالها وتتطور معرفتنا وقدرتنا على التصوير. رضوى طالبة أخرى من المنضمات للورشة تقول: «حياتى ككفيفة معتمدة أساسا على التخيل والتصور، وكل ما نسمعه نترجمه إلى صورة فى أذهاننا، لذا عندما سمعت عن الفكرة أعجبت بها واشتركت وشدنى فن التصوير وبعد تعلم الأساسيات التى يدرس لنا جزء منها فى مناهجنا فى الكلية بشرح أوفى على يد الأستاذة ريهام وساعدتنا فى حمل الكاميرا ولمسها للتعرف عليها وبوصفها للمكان الذى نتوجه إليه واعتمادنا على حواسنا من سمع ولمس لتحديد الكادر والمسافة والمقاييس استطعنا اجتياز التجربة والنجاح فيها وأنا سعيدة باللوحات المعروضة فى الجامعة، خاصة أننا شرحنا ما نتخيله عن الصورة بطريقة برايل أسفل الصورة لزملائنا المكفوفين الذين يزورون المعرض. الأستاذ طارق حلمى - موظف فى المكتبة المركزية - وهو أيضا كفيف وشارك الطلبة فى ورشة العمل ومنذ ذلك الوقت الكاميرا لا تفارقه ويمارس هوايته فى التصوير مع أصدقائه وزملائه يقول طارق: «أنا بطبعى أحب المشاركة فى أى فن أو رياضة أو نشاط يساهم فى التأكيد على قدرة الكفيف على صنع المعجزات وأتمنى تغيير نظرة البعض للكفيف على أنه قد يكون غير قادر على فعل أى شىء فأنا أمارس رياضة كرة القدم «الجرس» والسباحة وأهوى الأنشطة الفنية والأدبية، فقد حصلت على دبلوم الدراسات العليا فى الأدب المسرحى على يد أستاذى الراحل سعد أردش بعد تخرجى فى كلية الآداب قسم عربى وأهوى الأدب المسرحى والنقد، لذا كان نشاط التصوير نشاطا فنيا شدنى كثيرا واستمتعت بتعلمه لأنقل الصورة التى بذهنى للآخر وزوجتى سعيدة جدا بهواياتى الفنية، خاصة التصوير فاستخدمه فى الرحلات ومع أصدقائى».