من الصعب أن تنتقل من النظام إلى الفوضى.. ومن الجمال إلى القبح.. ومن الإحساس بآدميتك إلى قبول الإهانات. هذا هو حال أى مغترب عاش فى الخارج لسنوات ثم يعود فى إجازة قصيرة أو طويلة إلى بلده مصر.. إنه الانتقال من البارد إلى الساخن.. فكل شىء فى مصر ساخن وملتهب.. وصدمة هذا الانتقال تظل طويلا وتترك آثارها فى المشاعر والقرارات. أما إنهاء الغربة والعودة نهائيا إلى أرض الوطن. أو الهروب نهائيا من أرض الوطن إلى الاستمرار فى الغربة.. وهى مسألة صعبة ومعقدة ومؤلمة ولا تخلو من الإحساس بالندم فى كل الحالات!! عن هذه الحالة اختار النجم الموهوب أحمد حلمى.. أن يقدم آخر أعماله السينمائية فهو يجسد شخصية الشاب الذى انتقل مع والديه إلى الهجرة لأمريكا ثم ينتابه الحنين إلى زيارة مصر بعد وفاة والديه يعود إلى مصر حاملا الجنسية الأمريكية مع الجنسية المصرية التى يفتخر بها كما يفتخر بأن اسمه مصرى.. ويقرر ألا يأخذ معه الباسبور الأمريكى ومن بوابة مطار القاهرة يفرد صدره فرحا بأنه المواطن المصرى العائد إلى بلده.. فتتلاحق عليه الصدمات.. ابتداء من سائق السيارة التى تحمله إلى الفندق.. إلى موظف الاستقبال فى الفندق. إلى السيارة التى أراد أن يستأجرها ويقودها بنفسه.. إلى رغبته فى زيارة الأهرامات وركوب الخيل.. إنه فى كل خطوة يخطوها يواجه بعمليات النصب ومحاولات استنزافه ماديا باعتباره سائحا يحمل دولارات حتى يشعر بالخطر عندما تتناقص أمواله التى يحملها فيبحث عن عنوان البيت الذى كان يسكنه مع عائلته قبل أن يهاجروا إلى أمريكا. فى هذا البيت يلتقى بالجيران القدامى الذين مازالوا يذكرونه.. يفتحون له أبواب بيتهم.. ليأكل وينام معهم وتعامله الجارة الأم كأنه أحد أبنائها.. وتتعمق صداقته مع الابن الأكبر لهذه العائلة ويتطوع لأن يصلح الحال بينه وبين الفتاة المدرسة التى يحبها.. لندخل فى تفاصيل فساد التعليم.. كما ندخل فى مشكلة الابنة الكبرى لهذه العائلة التى تعيش مع زوجها فى هذا البيت الضيق لا تجد حريتها مع زوجها الذى يثور لمجرد أن زوجته لا تغطى رأسها أو ترتدى الملابس غير المحتمشة. تفاصيل كثيرة مكتوبة بعناية شديدة وذكاء تكشف عن عيوب فى حياتنا أصبحنا نراها كشىء عادى من فرط التعود عليها.. بينما هى فى عيون الزائر القادم من الخارج.. أشياء ضد العقل والمنطق.. وضد الحقوق الطبيعية للإنسان.. وضد التطور.. وضد النظام.. وضد الجمال. وهذه النظرة الكاشفة لأخطائنا وعيوبنا يعالجها الفيلم بدون تشنج أو خطابة زاعقة وإنما من خلال كوميديا راقية تبعث عن الضحك والتأمل وتدعونا لأن نعيد النظر فيها حبا فى مصر. مصر التى يكتشف فيها هذا الزائر كل الحنان والدفء الأسرى وعمق الصداقات وشهامة أولاد البلد. وعزة النفس وكرامة الفقراء المستعدين للتضحية بأنفسهم لمن يطلب منهم المساندة. إن هؤلاء البشر هم العسل.. أما الأسود فهو تصرفات أخلاق الزحام وأخلاق الفوضى وغياب القانون. فيلم «عسل إسود» تركيبة سينمائية بارعة تنأى بنفسها عن قضايا الفساد التى ملأت الصحف والفضائيات والأفلام.. لتوجه بوصلتها لنا نحن كجمهور.. أن نكف عن أخطائنا المدمرة فى حق مصر. لقد أسعدنى الفيلم تماما.. وأسعدنى سيناريو خالد دياب وإخراج خالد مرعى وتصوير سامح سليم وديكور محمد أمين مع موسيقى الرائع عمر خيرت. أما النجم أحمد حلمى فهو طاقة فنية متميزة ومتجددة أسعد دائما برؤيته على الشاشة وهو هنا لايحتكر الصورة لوحده.. وإنما يشاركه بجدارة كل من لطفى لبيب وإدوارد وإنعام سالوسة وإيمى سمير غانم وعبدالله مشرف. إنه فيلم يستحق المشاهدة.