جاءني صوته بنبرة يمتزج فيها الفرح والحيوية.. بالامتنان، من خلال رقم دولي قائلا في حماس: «صباح الخير» كانت وش السعد فقد كنتم أول من كتبتم عني.. وتحمستم لي سأصل للقاهرة غدا لأوقع عقد تصنيع الجهاز الذي اخترعته والذي سيحول الزبالة إلي سماد عضوي.. إنه شرف.. شرف إمام سلامة خريج كلية العلوم الذي ترك الوظيفة الميري - بهيئة المصل واللقاح - ليعمل في مجال جمع القمامة بالمنطقة التي يعيش بها- حي البراجيل- ليصبح أشهر زبال في مصر - هكذا أطلقوا عليه - وكنت قد التقيت به منذ سنوات قليلة لأكتشف يومها أنه ليس مجرد شاب طموح.. كسر المألوف وواجه سخرية الآخرين بشجاعة. وليس مجرد شاب يسعي وراء المكسب المادي الوفير حتي لو كان من الزبالة. اكتشفت يومها وباختصار شديد أن شرف.. دماغ .. فهو شاب يملك الرؤية.. وذو فكر.. وصاحب قدرة علي الاتجار وتطبيق العلم وتنفيذه بذكاء شديد علي أرض الواقع.. لذا توقعت له يومها ألا يقف علي أعتاب الشركة التي أسسها لجمع القمامة ويكتفي بها ولن يرضي غروره الشهرة التي هبطت عليه فجأة وجاءته مهرولة.. كنت أري بريق الذكاء يخالط ومضات الطموح وتوقعت له مزيدا من النجاح.. والتميز.. وصدق حدسي. - البداية شاب تخرج في كلية العلوم عام 1999 متحمس جدا ومحب للعلم وعضو بمركز العلوم بالأهرام.. عمل في هيئة المصل واللقاح بمجرد تخرجه.. وكان أتوبيس الهيئة ينقله صباحا للعمل.. ويعود به بعد انتهاء أوقات العمل فأصبح الكل يناديه في منطقته بالدكتور. الدكتور شرف راح.. الدكتور جه.. فجأة تبدلت الأحوال ترك شرف البالطو الأبيض والأتوبيس الأنيق.. والمركز ذا المستقبل المضمون وقرر الاستقالة.. وعمل مشروعا خاصا. - غسلت إيدك كويس! أسرته - التي لا يعمل أحد بها في هذه المهنة من قبل - صدمت، زملاؤه سخروا منه كثيرا وبعدما كانوا يفتخرون به أصبحوا يتهربون من لقائه.. فإذا قابله أحدهم يسأله في سخرية قبل أن يمد يده بالسلام مترددا غسلت إيدك كويس؟! خطيبته وهي قريبته أيضا.. خجلت منه وفسخت خطبتها وبعدما كان الدكتور شرف أصبح لقبه بتاع الزباله أهه..!! يتذكر شرف تلك الأيام بابتسامة بها تحدٍ أكثر مما بها من أسي قائلا: أنا شفت الذل والويل.. كنت من الساعة خمسة في الشارع ولولا المنحة التي حصلت عليها من وزارة التضامن والتي كانت عبارة عن سيارة نصف نقل.. وجرار ومقطورة ومرتب للعمال لمدة 3 شهور ما كان مشروعي قد خرج للنور ولولا قناعتي بجدوي المشروع وأهميته وحماسي له ما حققت أي نجاح.. ولا أنكر فضل محمد بيه حسن مأمور مركز أوسيم والأستاذ وجدي رياض الصحفي الكبير بالأهرام، فقد تحمسوا لي ومدوا لي يد العون فهما من أنصار الحفاظ علي البيئة.. ونظافتها وبالطبع مجلة صباح الخير، فقد كانت أول من نشرت عني تحقيقا مطولا.. وبمجرد نشره علي الإنترنت تفتحت أمامي أبواب الرزق.. والشهرة، فقد انهالت علي العروض داخل مصر.. وخارجها بعد نجاح تجربتي في البراجيل بعدما أصبح حيًّا بلا قمامة مقابل 4 جنيهات فقط شهريا كانت تدفعها كل شقة، بالإضافة إلي جمع القمامة والنظافة كانت هناك مشاريع للتشجير.. ومحو الأمية. وقد كنا نعفي أي شقة من دفع الشهرية إذا ما انتظم أحد أفرادها في مشروع محو الأمية بالحي!! أنا أيضا كسبت علي المستوي المادي والمعنوي الكثير وأصبحت أمثل لكثيرين قدوة حسنة ومضرباً للأمثال للنجاح بعيدا عن الميري وترابه. وجاءتني أكثر من دعوة للعمل مع مستثمرين مصريين وعرب لكن معظم المستثمرين المصريين الذين عرضوا علي التعاون معهم للأسف يبحثون عن المكسب السريع والمصلحة الخاصة من أسرع الأبواب فمثلا لقد عرضت علي أحدهم فكرة تحويل القمامة من المخلفات المنزلية العضوية (بقايا الأطعمة) إلي سماد عضوي يمكن استخدامه في زراعة آلاف الأفدنة وتصدير هذه المنتجات (الأورجنيك) التي لا يستخدم فيها أي سماد كيماوي للخارج، فهي مطلوبة بشدة في كل الدول الأوروبية والأمريكية.. وتحقق مكاسب خرافية ورغم ذلك فلم يتحمس المستثمر المصري للمشروع.. لأنه يتطلب وقتا وجهدا ومالا ولن يؤتي المشروع ثماره إلا بعد فترة وهو يبحث عن أسهل وأوفر مشروع في أقل وقت ممكن!! مستثمر آخر يعمل في مجال تصنيع البطاطس.. عرضت عليه تحويل قشر البطاطس الذي يقدر بآلاف الأطنان والذي يدفع عليها فلوسا لا تقل عن 250 جنيها في النقلة الواحدة إلي مقلب القمامة. عرضت عليه أن أجففه وأصنع منه سمادا عضويا يضاف إلي الأراضي المزروعة بالبطاطس التي تغذي مصانعه فبدلا من أن يتحمس للمشروع.. سألني حتدفع كام؟! - منجم ذهب من خلال خبرتي أدركت أن القمامة منجم ذهب.. وثروة في بيوتنا وشوارعنا مهدرة بلا قيمة لكن لم أكن أظن يوما أنها ستكون البوابة الملكية التي أعبر من خلالها إلي عالم رحب خارج حدود الوطن. فلقد تلقيت عروضا للتعاون مع أكثر من شركة في دول الخليج ودعيت إلي أفخم الفنادق للقاء كبار رجال الأعمال، يومها شعرت بفخر شديد لأنني مصري.. وقد حققت نجاحا في مصر فتح لي أبوابا جاءني من ورائها والحمدلله الكثير من التقدير سواء المادي أو المعنوي. فلقد تلقيت دعوة للعمل كاستشاري لشركتين كبيرتين في الكويت تعملان في إدارة المخلفات وذلك لتطوير إدارة المخلفات الصلبة والعضوية. ومن المعروف أن الكويت تنفق ما يوازي 20% من ميزانيتها علي النظافة.. وهناك يتبعون النظام الأوروبي، حيث (الفصل من المنبع) بمعني وجود سلات مختلفة الألوان لفصل المخلفات العضوية عن المخلفات الصلبة من بلاستيك وزجاج وخلافه وتعتمد شركات النظافة هناك علي الآلات المستوردة.. فهناك العمالة مكلفة جدا والأوفر الاستعانة بالآلات، وقد كان دوري كاستشاري هو تطوير هذه الآلات ومنظومة المخلفات كلها. هناك شعرت بأن طلباتي كلها مجابة.. وخبرتي وتجربتي لهما ثمن لأنهم في حاجة إليها. وهناك تلقيت دعوة من مسئول كبير بسلطنة عمان، وبالفعل سافرت إلي عمان وهناك التقيت بالمهندسة بشري. - بشري المهندسة بشري بنت جعفر العبدوانية ناشطة في مجال البيئة في عمان وتعمل في مجال المخلفات العضوية والصلبة.. تحمست للجهاز.. والمشروع الذي يهدف إلي تحويل المخلفات العضوية سواء منزلية أو نباتية أو حيوانية إلي سماد عضوي خاصة أنها كانت تعمل في ذات المجال.. وتعاونا وسجلنا براءة الاختراع سويا في عمان. هذا الجهاز هو حصاد 8 سنوات من العمل المتواصل وثمرة دراستي لعلم الميكروبولوجي بكلية العلوم وخبرتي في جمع القمامة.. القمامة التي جمعتها بنفسي واستطعت من رائحتها أن أميز نوعيتها وأقدر قيمتها ولم تلهني مكاسبها عن أن أعمل عقلي.. وأسخر دراستي وعلمي لأستثمرها خير استثمار يفيد الوطن.. ويفيدني. هناك مصانع كاملة متوقفة.. ولا تعمل رغم أنها تضم أحدث وأفضل الأجهزة والسبب ببساطة أنها تستخدم تكنولوجيا غير مناسبة لنا رغم أن أقل مصنع تكلف ملايين - 10 أو 12 مليون جنيه بالإضافة إلي مساحة شاسعة من الأراضي لا تقل عن 10 أفدنة إلا أن كل هذا الوضع مجمد وللأسف مع إيقاف التنفيذ وبالتالي لا تتحول القمامة إلي سماد كما كان مخططا لها.. ولاتزال الزبالة تحتل شوارعنا رغم أننا لو أحسنا استثمارها ستعود علينا بأرباح خيالية فمكاسب الزبالة وأرباحها تفوق مكاسب تجارة السلاح أو المخدرات!! أما الوحدة الذي اخترعتها فهي غير مكلفة ويمكن استخدامها في كل حي.. فتكلفتها لا تتجاوز 250 ألف جنيه ولا تحتاج لمساحة أكثر من فدان واحد، ولقد وقعت معي شركة استثمارية عقدا يتيح لها تنفيذ هذه الوحدة واستثمارها في تحويل المخلفات العضوية إلي سماد عضوي، ومن المعروف أن سماد الزبالة الناتج عن المخلفات المنزلية عالي القيمة جدا وأفضل من السماد الحيواني.. والسماد النباتي كل علي حدة فلو اختلطت ببعض بنسب متوازنة سينتج سماد به مادة غذائية عالية القيمة والفائدة جدا للمنافسة مما يمكننا الاستغناء تماما عن السماد الكيماوي الذي نلجأ إليه مضطرين لأن البذرة الجنين في الأرض بعد أن تم تهجينها من خلال الهندسة الوراثية أصبحت شرهة جدا للسماد.. بل هي غول لا يكفيها السماد العضوي وحده مما يضطرنا إلي اللجوء للسماد الكيماوي.. لكن إذا استطعنا توفير هذا السماد العضوي عالي القيمة فإننا نحقق المعادلة الصعبة: الإنتاجية الوفيرة بلا أسمدة كيماوية. - للكبار فقط شرف إمام سلامة - 37 سنة - وقع مؤخرا عقدا مع شركة استثمارية برأس مال مصري كويتي تعمل في مجال تدوير المخلفات والتصدي للمشاكل البيئية لتصنيع هذه الوحدة علي نطاق واسع. ورغم ذلك لايزال هذا المخترع يفخر بأنه جمع القمامة بيديه. وعرف من النظرة الأولي لكومة الزبالة كم تساوي.. وأدرك من رائحتها قيمتها.. ويقول علي الزبالة.. «دي فلوس مرمية مش عارفين نستثمرها». ومن يدعي أن تزايد القمامة يرجع إلي ذبح الخنازير فهذا ادعاء باطل وكاذب.. فالخنازير لم تكن تأكل سوي زبالة الفنادق.. وليس أي زبالة.. والفنادق هي الجهة الوحيدة في مصر التي تبيع زبالتها ويا هنا صاحب النصيب اللي يرسي عليه المزاد.. فكلها مكاسب علشان كده المزاد ده للكبار فقط. ويختتم شرف حواره معنا مؤكدا: عن يقين إحنا زبالتنا غالية.. وبتتسرق .. وبيتاخد خيرها ويروح لغيرنا.. إحنا صحيح جودة زبالتنا ليست في جودة زبالة الخليج لكن احنا كمياتنا ضخمة جدا. وده خير لا يجب أن نفرط فيه، فهي ثروة لابد أن نحافظ عليها ونستثمرها.