ما أجمل الكلام والحديث عن «حقوق الإنسان» سواء من الحكومة أو المعارضة، الأغنياء أو الفقراء، الرجال أو النساء، الأذكياء أو الأغبياء، الأهلاوية أو الزملكاوية!! «حقوق الإنسان» تلك العبارة السحرية الرائعة التى يطالب بها الجميع، ويتحدث عنها الجميع سواء عن قناعة أو مجاراة للموضة السائدة الآن فى كل العالم. لقد تسلل هذا المصطلح إلى حياتنا- كما تسللت عشرات العبارات والمصطلحات فى السنوات الأخيرة مثل الخصخصة، والحراك، والآلية، والتنمية المستدامة، ومن هذا المصطلح نشأت وترعرعت مصطلحات أخرى منها حقوق المستهلكين، حقوق المشاهدين، حقوق الأقلية وحقوق الكسالى، وحقوق المرأة وحقوق الطفل.. فالمهم أن الكل يدمن الحديث عن «الحقوق» ولا أحد يتكلم عن «الواجبات»!! الكل يريد حقوقه كاملة غير منقوصة ولا أحد يتحدث عن واجباته!! فى وسط الكلام عن مولد حقوق الإنسان.. اكتشفت مقالاً طريفاً كتبه العبقرى العظيم «توفيق الحكيم» فى شهر أكتوبر 1947- أى منذ 63 سنة بالتمام والكمال- عن حقوق الإنسان وكان عنوان المقال «لست شيوعياً.. ولكن!» وفيه يقول: عندما التحقت بالسلك القضائى فى أول الشباب دعيت إلى مقابلة النائب العام، فجعلنا نتبادل الحديث فى شتى الشئون إلى أن عرجنا على موضوع دراساتى فى جامعة باريس، فاندفعت أقول له بغير تحفظ: كنا ندرس هناك تعاليم كارل ماركس وكنت من المهتمين بدراسة الشيوعية!! فصاح النائب العام فزعاً: شيوعية!! وكيل نيابة شيوعى!! يا للمصيبة!! فهدأت من روعه ووضحت له أنها كانت دراسة نظرية فى الكتب، لأن برنامج الدكتوراه فى الاقتصاد السياسى كان يتطلب منا بحث النظريات الاقتصادية على اختلاف مراميها، وما الجامعة إلا ميدان حر تتصارع فيه الآراء، واطمئن يا سيدى النائب، إنى باعتبارى وكيلاً للنيابة لن يكون لى غير واجب واحد: أن لا أحنث باليمين التى حلفتها للدولة، وأن أقوم بواجبى وأطبق القانون بالأمانة والصدق!!». ثم مرت السنوات وتنقل توفيق الحكيم من وظائف الدولة إلى ميدان القلم، وانقلب الجدل العلمى بين ماركس وسميث إلى نزاع سياسى بين كتلة شرقية وكتلة غربية، ثم يعترف «الحكيم» إنى الآن حر غير مقيد بيمين، فلو أتيح لأحد أن يعيد علىَّ طرح السؤال القديم: وأنت ما رأيك وما هو موقفك من هذه الآراء؟! ترى بماذا أجيب اليوم؟! أجيب بشىء واحد: إن عهد الإيمان بالنظريات قد ولى من حياتى، وأنا لم أعد أذكر الآن تفاصيل تلك الآراء التى كنا نتحمس لتنفيذها أو اعتناقها!! التقدير الشخصى للأشياء قد حل فى نفسى محل التأمين الشامل على كل ما كان يهز مشاعرنا من أفكار، لا أستطيع اليوم أن أنضم إلى ماركس أو إلى سميث فكلاهما صادق وكلاهما كاذب، ولا أستطيع أن أنضوى تحت لواء الشيوعية أو الرأسمالية فكلاهما مصيب وكلاهما مخطئ! كل ما أستطيعه هو أن أستخلص من تاريخ البشرية ومن تجارب هذين المذهبين واصطدامهما بطباع الناس وظروف الحياة، حقائق ثابتة أو قل عقائد شخصية ليس من السهل على أحد أن يزحزحها من نفسى!! ثم يتحدث عن هذه الحقائق الثابتة ومنها «حقوق الإنسان» فيقول موضحاً: حقوق الإنسان ذلك الإنسان الواحد الذى لا تمييز فيه بين دم ودم، حقوق المواطن ذلك الفرد الذى يتمتع بعين الحقوق المدنية والسياسية ويخضع لما تفرضه من واجبات دون تفريق بين مولد أو منبت أو مرتبة، وسرى هذا المبدأ فى الأرض وجعل أساساً لأكثر الأمم، ولم يعد من الضرورى لتطبيقه إقامة نظام خاص من الحكم، فالملكية والجمهورية تصلحان على السواء إطاراً للمحافظة على حقوق الإنسان والمواطن. وبعد شرح مستفيض عن الثورة الفرنسية والثورة الروسية يختتم «الحكيم» مقاله البديع بقوله: وبعد.. فلأترك هذا الحديث العام، ولأعرض ما أراه صالحاً لبلادى.. ولا تعنينى الأسماء ولا الصفات ولا التعاريف.. أريد أن يتحقق فى بلادى ثلاثة أشياء: الأول أن يكون كل ولد يولد، وكل مواطن يوجد ملكاً لنفسه، وملكاً للوطن فى آن، فالوطن مسئول عن الصحة الجسمانية الذهنية لكل مولود وموجود، فالتطبيب بالمجان والتعليم بالمجان، إن لم يتحقق هذا فلا قيمة لوجود الوطن، كذلك ما يملكه الفرد فى أرض الوطن هو ملك للفرد وملك للوطن فى آن، لأن قطعة الأرض قطعة من لحم الوطن، فلا يجوز للفرد أن يسىء استغلالها أو أن يعجز بإهماله أو جهله عن استخراج كنوزها وتعطيل نفعها، فعلى الوطن أن يقسم أرضه أو لحمه إلى مناطق تعاونية يجرى فيها البذر والزرع والحرث والسماد والحصاد والدراس بآلات حديثة وخبرة علمية لتنتج أكثر ما يمكن من محصول هو ثروة للوطن وثروة للفرد فى آن. الثانى: أن تمتد يد الضرائب التصاعدية بقوة لتقارب وتجانس بين أبناء الوطن وأن يكون لحكومة الوطن رقابة دقيقة على شركات المرافق العامة كالمياه والنور والمواصلات إلخ حتى لا يكون لها غير ربح زهيد لا يبهظ أفقر الناس، يضاف إلى ذلك واجب آخر على حكومة الوطن، وهو توفير السكن الصالح وتدبير العمل للعاطل وفرض الحد الأدنى للأجر الذى يصون للأجير كرامته الآدمية ويكفل له كمواطن كيانه الداعم للوطن. الثالث: العلاقة بين رأس المال والعمل، وهو جوهر الخلاف بين المذهبين المتصادمين، أحدهما يقول أن رأس المال يستغل العمل ويربح كل كده، والثانى يقول أن رأس المال هو الذى يجازف فله وحده ثمرة جسارته، والحقيقة التى أراها فى طريق التبلور: هى ألاَّ تطالب كالمذهب الأول بالقضاء على الرأسمالية! ولا أن تتركها كالمذهب الثانى تمرح وحدها فى ثمرة الاستغلال، ولكن تجعل فى رأيى للعمل شعاراً يواجه به رأس المال: استغلنى واشركنى فى الربح!! وفى نهاية روشتة الحكيم التى كتبها بتاريخ 11 أكتوبر 1947 يقول ولاحظ دلالة كلماته: هذا تخطيط بسيط فيما أراه فى هذا الأمر، لست أحفل بما يمكن أن يسمى بين المذاهب حسبى إنه اتجاه أراه نافعاً.. ميسور التنفيذ.. آمل أن يرى ضوء الشمس فى بلادنا ذات يوم. ولايزال أملى هو نفس أمل توفيق الحكيم لا أكثر ولا أقل!!؟