هوليود من: جميل يوسف استقبلت هوليوود بحرارة كبيرة فيلم «جيه أدجار» لأديب السينما الأمريكية وحاصد جوائز الأوسكار المخرج العبقري المخضرم «كلينت إيستوود» جعلته أحد أهم الأعمال المهمة في مهرجانات ترشيحات الجوائزالسينمائية لهذا العام في الإخراج وأفضل فيلم وأفضل ممثل «ليوناردو دي كابريو» وأفضل ممثلة «ناعومي واتس» وأفضل ممثل مساعد «أرمي هامر» وأفضل ممثلة مساعدة «جودي دينش». ويدور فيلم «جيه أدجار» حول قصة حياة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية «الإف بي آي» وترؤسه لهذا المنصب الفيدرالي المهم لأكثر من أربعة عقود، وخدمته ومعاصرته لثمانية رؤساء أمريكيين، ولكن من الناحية العملية خدم «جيه أدجار هوفر» نفسه فقط ، بسبب شهرته بالدهاء في العمل واستغلال سلطته ونفوذه اللا أخلاقي لجمع المعلومات السرية الخاصة، واستغلاها في إذلال رجال الكونجرس والبيت الأبيض ومنهم الرئيس الأمريكي «جون كيندي» نفسه، وشقيقه روبرت كيندي وأغني رجال الولاياتالمتحدة وأكثرهم قوة، وأشهر نجوم هوليوود في ذلك الوقت، الذين اتهموه وعيروه بعلاقته بالشذوذ الجنسي مع كبار مساعديه في مكتب التحقيقات الفيدرالي. وأدهشنا النجم الأمريكي المشهور بوسامته الشديدة ليوناردو دي كابريو بهيئته الغريبة علينا حيث غلبت عليه السمنة المفرطة، حيث زاد وزنه بمقدار 30 كيلوجراما علي الأقل، كما فقد الجزء الأمامي من شعر رأسه ليصاب بالصلع حتي يبدو في صورة قريبة من شكل «جيه أدجار هوفر» في مرحلة التقدم في العمر، وبرع دي كابريو في تصوير أهم ثلاث مراحل في عمر «جيه أدجار»، لكن أقصاها وأقواها علي الإطلاق كانت المرحلة الأخيرة قبل موت «جيه أدجار» فجأة في بيته بعد زيارة معتادة لصديقه ورفيق مشواره وكاتم أسراره في العمل والحياة الخاصة. والفيلم ميلودراما رائعة لسينما اللوحة والضوء، ذات مدلول سياسي قوي يتناول الحياة العامة والخاصة للرجل تعكس البساطة وكلاسيكية البناء الدرامي للأحداث المتلاحقة في الرغبة الهائلة للقوة والسلطة والتحكم والكذب في صنع البطولات وصراع الغرائز ولوعة لحظات الوحدة والمواجهة مع الذات وجوع المشاعر الإنسانية العميقة التي رصدتها كاميرات المخرج كلينت إيستوود ببراعة ودقة وحساسية هائلة ومهنية رائعة. وركز بشدة كلينت إيستوود أن «أدجار» ليس بوطني شريف مكافح للشيوعية كما كان يدعي، ولكن كان دائما يميل إلي الابتزاز واستغلال بطولات الآخرين من رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي، ليبدو بأنه هو محور وقائد ومصمم العمليات ليصور للإعلام والرأي العام أنه كان بطل القصة، ولا يتردد مطلقا في دهس وسحق كل من يقف في طريقه. السلطة المطلقة أفسدته بالكامل، لا شك في ذلك علي الإطلاق. والمفارقة الأهم في وضع هذا الرجل الذي بلا مشاعر ويبدو دائما غليظا، لا يرحم جامدا كالصخر وصالح النفس والنية في كراهيته الشديدة للشيوعيين، والمخربين والإرهاربيين، أنه كان يخشي ويرتعب ويحارب كل من يقترب من حياته الخاصة حتي لا يذاع عنه قصة غير متوقعة من شأنها أن تجعل منه هدفا للأعداء وكان يقضي الليل وحيدا، بائسا يلبس ملابس النساء ويبكي بلا انقطاع، وكان لا يثق في أحد مطلقا سوي أمه «جودي دينش» وسكرتيرته الخاصة الحسناء «ناعومي واتس» علي مدار أربعة عقود والتي قامت بتدمير ملفاته السرية الخاصة بعد موته كما وعدته حتي لا تصل ليد أعدائه. وهذا الفيلم هو من الضخامة بأن يأخذك في ساعتين و 17 دقيقة لمراحل ومشاهد ومواقف كثيرة في حياة «جيه أدجار هوفر» ليتبين لنا بالتفصيل كيف جاء كل ذلك إلي النهاية الصدمة التي طالما انتظرها أعداؤه علي مدار أكثر من أربعة عقود. وبرع دي كابريو، في التجسيد والتنقل السريع بين جميع المراحل العمرية ل«أدجار» وكان يمضي ساعات طويلة للإعداد للماكياج الخاص لمراحل تتراوح أعمارها بين 24-77 وما يقرب من 80 موقفا لتغييرالملابس، وتحمل كل ألوان العذاب اليومي الذي يستغرق ساعات طويلة للإعداد حتي يكون قريبا من هيئة وملامح وملابس «جيه أدجار» ليحظي بالتصديق. ولخص ايستوود رسالته من خلال عبارات «جيه أدجار» الشهيرة التي طالما ضلل بها الرأي العام ورجال الكونجرس والرئيس الأمريكي: «يجب علينا ألا ننسي أبدا تاريخنا»، «وعلينا ألا نتواني عن حذرنا في ملاحقة أعداء الوطن» ولكن «أدجار» نفسه بغروره وظلمه وسلطته المطلقة كان بمثابة أكبر وأخطر حذر كان يجب التركيز عليه بشدة أكثر من كل المحرضين والمخربين في الداخل والخارج لأنه كان ببساطة يخترق كل القوانين والقواعد والأخلاق مرددا: «في بعض الأحيان نحتاج إلي الانحناء ونسيان القواعد قليلا للحفاظ علي سلامة بلادنا». لقد أثبت لنا كلينت ايستوود مرة أخري بأنه أديب السينما الأمريكية وأهم وأنشط المخرجين فيها، وأكثرهم صلابة فكرية، ورغبة في البحث عن أسلوب سينمائي متميز غير استعراضي تقليدي، يستطيع من خلاله مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية والفلسفية مناقشة عميقة غير سطحية. غير السطحية هذه هي السمة الأساسية التي تميز معالجات كلينت إيستوود، ويبدو أن المخرج العجوز لن يهدأ وسوف يتحفنا مرة أخري بأعمال عديدة قادمة تحمل لمساته السحرية وأسلوبه السينمائي المتميز الخلاب الذي يطرب العين بلحظات راسخة في ذاكرة محبي فن السينما الرفيع. فالحياة لحظات وأعمال ايستوود إحداها.