مازال حجازى يأتى كل صباح فى السابعة، يجلس على مكتبه الذى أجلس عليه الآن ليرسم الواقع المصرى فى رحلته عبر الأيام الصعبة، ويحاول أن يحركه ولو قليلاً إلى الأمام، ليدخل بيوت البسطاء فى الحوارى الضيقة البعيدة. وإذا كان ديوچين يحمل مصباحه المضاء فى النهارات البعيدة، ليبحث عن الحقيقة المستحيلة، فإن حجازى يحمل مصباحه ليضىء للناس طريق الحقيقة التى امتلكها، وفك طلاسمها. حجازى الطيب البسيط الجدع، عبقرى الكاريكاتير، الذى يسقط وحيداً ويتألم وحيدا، ثم يخرج علينا بنفس الابتسامة الرائقة، ويتحدث عن العالم الذى يشتهيه، كان بالإضافة إلى موهبته العبقرية يمتلك حساً سياسيا عالياً، يجعل العالم ينام فوق أنامله ثم يتحول إلى رسوم على الورق، تبدو فى اللحظة الأولى لقطة اجتماعية لكنها ما تلبث أن تتفجر فى داخلها لقطة سياسية، تضيف بعداً جديداً، بحيث تصبح تلك الخطوط وعياً اجتماعيا وسياسياً، يتشكل داخل الوجدان المصرى. وإن كانت بدايات حجازى الأولى تتسم بالخطوط المستقيمة الحادة، والتى كانت تتماهى بشكل ليس كاملاً مع خطوط العبقرى الآخر صلاح جاهين، إلا أنه سرعان ما اكتشف عالمه المبهر، المصنوع بدقة بالغة، تجعله أقرب إلى الحقيقة، التى أدركها مبكراً، وحاول ألا يحتكرها، فتحولت تلك الخطوط لتصبح أكثر مرونة ورقة، ويتخذ الجسد البشرى انسيابيته أن الإنسان هو محور اللقطة عند حجازى، إلا أن هذا الإنسان لا يقف وحيداً فى الفراغ، أو يتحرك فى المطلق لكنه يكتسب إنسانيته وملامحه من تلك تفاصيل الصغيرة التى برع فيها حجازى التفاصيل التى تحول الكاريكاتير إلى لوحة فنية، تظل حية على حوائط الذاكرة، بعد أن تنتهى نوبة الضحك، فنظل نتأمل هذا العالم الذى امتلكنا أبجديته، ونفكر فى كيفية رسم أبجدية جديدة، نتهجى أحرفها بأمل فى الذى يأتى.. لأن الضحك هنا، ليس ضحكا تطهيرياً، لكنه ضحك أشبه بالوجع الذى يظل يطاردك، ضحك ينغرس فى العقل فيحاول أن يغلق تلك الدائرة، التى لم تكتمل بعد. مازال حجازى يأتى كل يوم يشرب قهوته.. ويرسم ليمنحنا روحه الثائرة وأحلامه القادرة على التحليق فى فضاءات خاصة لم يعرفها أحد غيره، ثم يمضى فى الحادية عشرة صباحا، كان يأتى كأنه صباح جديد، وضوء شفيف، يداعب الوجوه الحائرة فى طرقات الحياة. مازال حجازى يجلس وحوله الأصدقاء.. يكورون العالم ويقذفونه من النافذة ويضحكون، يحولونه إلى مراكب ورقية تحط على ضفاف النيل من المنبع حتى المصب، كأنها رحلة داخل التاريخ منذ آلاف الأعوام، فهم يمتلكون العالم ويمتلكون القدرة على إعادة صياغته مرة أخرى. مازال حجازى يطل علينا، وسوف يظل يطالعنا حتى آخر العمر، فوق لوحاته العظيمة سنموت نحن ويبقى حجازى العظيم.