أريد أن أدعوك إلى المشاركة معى، فى الاحتفال بنجاح حفيدتى ليلى - أربع سنوات وتسعة شهور - فى اجتياز مهارة قراءة الكلمات وكتابة الحروف العربية، من الألف، إلى الياء «ربما تكون حفيدتك أو ابنتك التى فى نفس عمرها أشطر أو أكثر تطورا مبروك لمصر». على أى حال فإن وصول ليلى إلى هذا المستوى أفرحنا أو أثلج صدورنا ورأينا فيه خطوة على طريق، عليها أن تتقدم عليه يوما بعد يوم، وحين قرأت بنفسها عنوان الفيلم على شاشة التليفزيون «عسل أسود» صفقنا لها فرحين وحين أدعوك إلى هذا الاحتفال، فبهدف اشراكك معى، فى بعض الهموم المشتركة، بيننا فى البيوت والمدارس مع الصغار والمناهج والتدريس. إننى أشركك معى فى تجربة ليلى، القراءة والكتابة على يد شيخ - الذى هو أنا - يقترب من السبعين. وكنت قد لفت نظر أبويها وهى فى الثالثة والنصف من العمر، أنه قد يكون من الأفضل أن تبدأ مسيرة التعليم. ولم يبديا حماسا، إحساسا منهما أن الوقت مبكر، للزج بها فى هذه المحنة. بذلت جهدا فى إقناعهما، فهما يعتقدان بقوة أنها صغيرة على التعليم رغم أننى أوضحت أن البداية فى هذه السن ليست معناها واجبات وحقيبة متخمة، ومشقات ولكن الأخذ بيدها بيسر وتمهيد. وربما كنت متأثرا بدراسة فى الخارج نشرت نتائجها، منذ وقت غير بعيد حول أسباب التقدم فى العالم، وجاء التعليم العصرى الجاد فى مقدمة عوامل التقدم وفى تحليل نظم التعليم المختلفة بين الدول الأكثر تقدما، كشفت الدراسة أن الأطفال الذين يشترك البيت فى متابعة دروسهم، يصبحون أكثر تفوقا وثقة وإنجازاً، من الذين يلقى الآباء عبء تعليمهم على المدرسة وحدها، ناهيك عن الفرق بين مدارسهم ومدارسنا. ولم أكن فى حاجة إلى وقت طويل، لأتفهم أنه مهما تكن وسائل الإغراء والإقناع، فإن التعليم جهد مر على أى أحد، وبالذات على الصغار. فبعد وقت قليل، أشهرت ليلى سلاح المقاومة، وخططت لتوقى الدرس الذى لم يكن وقته يزيد على دقائق. وتذكرت كلمة نهرو، أحد زعماء الهند الكبار، عندما كان يزور إحدى مدارس الأطفال، خاطب تلاميذ أحد الفصول، وهو يهم بمغادرة المدرسة قائلاً: استمتعوا بطفولتكم أكبر وقت ممكن، أبقوا أطفالا لأطول وقت أو جملة قريبة من هذا المعنى. معنى الحرص على الاستمتاع بسنوات الطفولة. وبالنسبة لى فإن قضاء بضع دقائق كل يوم، تنظر خلالها إلى الصورة وتقول أرنب أو بطة ثم ننشغل فى نشاط ممتع لها، كاللعب أو مشاهدة التليفزيون، أمر ليس مرهقا. ولكن هل هو كذلك بالنسبة لها؟ لاسيما أنه سرعان ما يتحول إلى واجب، وتذكر، ومسئولية. بسرعة مذهلة أحست أنها دخلت فى شرك. وخططت للهروب من هذه اللحظة، التى اتفقنا على توقيتها ومتابعة إنجازها. حين أتذكر الآن، المكر والدهاء فى تخطيطها للإفلات من «درس جدو» أندهش لهذه المقدرة. وبعد شهور من الكر والفر، استقر الوضع بمعاونة الوالدين، على حضورها فى موعد محدد، ومتابعتها لدروس القراءة والكتابة العربية. * مسك الختام جهدى كان منصباً على كسب ثقتها، وبناء علاقة قائمة على الصداقة والاحترام معها نعم الصداقة والاحترام فأنا أعرف جيدا أن هذا الكائن الصغير، له عالمه وأحاسيسه واعتزازه بنفسه. لاشىء أو جهد يذهب هدرا فبعد شهور استقرت العلاقة، وتعرفت على عالم اللغة والأوراق والأقلام.. إن هذه المهمة ليست أمرا هينا. فتعويدها كيف تمسك القلم، بطريقة سليمة، أمر شاق عليها، وعلى أيضا. ولكن يجب متابعته وعدم التهاون فيه. إن ما تستقر عليه، فى هذه المراحل الأولى، سيبقى بقية العمر. أنا نفسى الذى أعلمها، لا أمسك القلم بطريقة صحيحة، ورغم هذا يجب أن يكون هدفى أن أنبهها، كيف تمسك القلم بين الخنصر والبنصر والإبهام، وعلى مسافة معينة، وتدوس على القلم ليكون الخط واضحا. ليست المسألة تعليم القراءة والكتابة. إنها إسهام فى بناء شخصية، التى تؤدى العمل بإتقان وتجويد. هذه البذرة تلقى فى أعماقها، منذ هذه اللحظات. كنت أقلب منذ أيام فى إحدى المكتبات فى كتاب عن الخط العربى، وتوقفت عند عبارة بأقلام مؤلفيه تقول يجب أن يتعلم التلميذ كتابة الحرف باكتمال ووضوح وإشباع. هذه النصيحة المفروض أن تنقش على قلوب مدرسى المدارس. وبالذات فى المراحل الأولى. والوصول إلى هذه النتيجة، يتم خطوة خطوة، ولكن بثبات. حين تنظر فى خطوط كثيرين - روشتات الأطباء وحيثيات الأحكام - نرى ألغازا وشخبطات غير مفهومة. إن البداية، فى إيمان المعلمين، بالنصيحة التى أوردناها قبل قليل، كتابة الحرف «باكتمال ووضوح وإشباع». فالتعلم، وبالذات فى السن الغضة، فرصة ذهبية لتكوين وبناء الشخصية. بعد شهور، من بداية دروس القراءة والكتابة، تقدمت ليلى على الطريق. ولكن تطويعها للمسلك الصحيح، أصبح أكثر صعوبة. فكيف تجلس لتلقى الدرس، أمر من مهام المعلم. ليلى فضلت أن تمسك القلم بيد، وتضع يدها الأخرى على خدها. وهذا لا يساعدها على التحكم فى الكراسة. طلبت منها أن تجلس كويس. - أنا قاعدة كويس. امسكى القلم بيدك اليمين، ودوسى على الكراسة بيدك الشمال، واجلسى على الكرسى وجسمك مستقيم. - أنا أحب أقعد كده وأحب أحط إيدى على خدى. - المفروض الواحد يجلس فى الدرس كويس. - أنا كده كويسه، وحاقول لماما عليك. ولم أجد نفسى مغاليا، عندما أصررت أن تجلس ليلى دون تراخ وتسيب. إنه من خلال البيت والمراجعة، تنمو شخصية الطفل، وتنغرس فى أعماقه قيم الجدية والأمانة والبناء. * الحزم مطلوب طبعا هذا الواجب ليس نزهة، كما أنه يجب ألا يتحول إلى عذاب فلابد من لحظة يكون فيها الحزم مطلوبا. ليلى لا تقبل أى درجة من الحزم، وهى تسميه «زعيق». ترفض «الزعيق» رفضا تاما، من منطلق الاعتزاز بنفسها، وإحساسها بالكبرياء. وجدت من واجبى أن أحمى هذا الاعتزاز، ولكن أحرص ألا يتحول إلى مكابرة. ربما كنت «أزعق» فعلا، ولكن فى لحظة معينة، حين أحس أن الدلع والتدلل والاستخفاف، يمكن أن يصبغ سلوكها. فى لحظة معينة، لابد من توجيهها بحزم، وهو ما تسميه «زعيق» أو «وشك مكشر كده ليه». وحين انتفضت أمها تدافع عنها، لم أجد مبررا لمناقشة غير مجدية، فالأم لا تقبل أى إيماءة ترى فيها قهرا لابنتها، وهى - الأم - لم تنتبه أن الثقة التى تولدت بيننا، هى التى تساعدنى على لفت نظرها، إلى ما يجب عليه السلوك السليم. ترحمت على والدى، وأنا أتذكر كلمة له، لابد أنه نقلها عن شيوخه فى الأزهر. إن رسوب العلم فى نفراته. أى أن العلم يستقر فى الوجدان، لحظة الانفعال، والتأكيد. وغضب الأم لم يؤثر فى منهج التدريس، ولكن كلمات ليلى هى التى أثرت، وهى تقول لى بهدوء الكبار: «لما أغلط ما اتزعقش، قول لى إيه الصح، وأنا أعرفه وبرضه فى الكتابة». مس حديثها وحنانها وابتسامتها قلبى. ولكن كيف أقول لها، إننى لا أرفع صوتى، لأنها تخطئ، ولكن لاقتلاع الميل إلى الدلع والتظرف وعدم الإتقان. وهو أمر لابد من الانتباه إليه مبكرا. ولكن نصيحة ليلى جعلتنى أكثر هدوءا وصبرا. وبالذات حين أسرت لجدتها. «جدو بيلخبطنى وهو اللى بيخلينى أغلط». وتذكرت ملاحظة لأحمد بهاء الدين، فى مقال له - ربما فى مجلة نص الدنيا، «إننا نعلم أولادنا وفى نفس الوقت نتعلم منهم». لم تضايقنى ملاحظاتها أبدا، بل اعتبرتها شيئا جيدا، أن تستطيع التعبير عن نفسها، ومقدمة للقدرة على الحكم، فى مواجهة الآخرين. أكرر فى النهاية ما ذكرته آنفا، أن متابعة تعليم أطفالنا، مهمة يجب ألا يتخلى الأبوان عنها، وأن يتابعاها بكل جدية ومثابرة. وأن يقتنعا أنهم لايعلموهم فقط المعارف، ولكنهم يربون ضمائرهم ومشاعرهم ومواقفهم. وأن الأطفال يستجيبون لكل ما هو طيب وإيجابى وصاعد. إن الجدية والاستقامة والضمير الحى والتعلم الذاتى، تضىء أنوارها فى أعماقها منذ تلك اللحظات. ومن المهم ألا يبخل الأبوان، بالوقت والجهد، لغرس هذه القيم. وهو استثمار لن يضيع أبدا. وأهم من إغداق اللعب والملابس الجديدة والشوكولاتة عليهم.