قايم بينا يخاطبنا نجاوبه ويجاوبنا قائد ومجندين» هكذا كنا نذوب في الغناء لجمال عبد الناصر بكلمات العبقري الراحل صلاح جاهين وحنجرة المبهر «عبد الحليم حافظ»، لم تكن تلك الأغنية تتركنا أو نتركها، إلا وقد استكملنا الهتاف من خلف عبدالحليم حافظ في ندائه إلي عبد الناصر: «قول ما بدا لك، إحنا رجالك، ودراعك اليمين». إلي هذا الحد قمنا بتسليم الأمر لجمال عبد الناصر: «قول ما بدا لك». أسترجع هذه الأغنية اليوم وغيرها من الأغنيات المعبرة عن أحوالنا خلال ثورة 1952 وعلاقتنا بالزعيم جمال عبدالناصر، فأجد أنها حالة حب: «ياجمال ياحبيب الملايين الملايين». حتي عند وداعه ابتكرت ملايين الشعب المصري بتلقائية نشيد الوداع: «الوداع ياجمال ، ياحبيب الملايين». إنه حبيبنا، وحبيب الملايين، علاقة شعب وزعيم قائمة علي الحب، هو البطل الذي استرحنا لظهوره فسلمناه الأمر، وارتاح منا البال، وعليه هو أن يفعل كل شيء، إنه حبيبنا الذي نعتمد عليه ولانري عيوبه. حين أنظر اليوم بعد ثورة يناير إلي علاقة الحب هذه، أسأل نفسي: هل نحتاج اليوم إلي رئيس نحبه؟ الحب تسامح في الأخطاء، تجاوز عن السلبيات، ترفع عن المحاسبة. مما يجعل إجابتي هي أن هذه أمور لا بد أن نتوقف عن التعامل بها مع الرئيس القادم. ثم أعود وأقول أيضا إنني إذا كنت لا أريد رئيسا نحبه، فإنني لا أريد في الوقت ذاته رئيسا يكون دورنا معه هو أن ''نقعد له علي الواحدة''، فهناك فرق بين أن نراقبه وبين أن نتلكك له، فرق بين أن نحاسبه ، وبين أن نتصيد له. لذلك لا أريد أن نفعل مع الرئيس القادم ما تفعله غالبية النخبة في مصر اليوم مع المجلس العسكري، فغالبية النخبة تبدو في علاقتها مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة كأنها ''قاعدة له علي الواحدة''، ''بتتلكك له''، يتصيدون الأخطاء ويقومون بتضخيمها، ويعيدون ويزيدون في الكلام حول نقاط التقصير متسببين في حالة من الاستنزاف للمجلس العسكري ولطاقة الصبر عند غالبية الشعب، استنزاف يتسبب في تعطيل الانسيابية للفترة الانتقالية، بينما يريدها الشعب أن تمر بسلام وتتم الانتخابات التشريعية والرئاسية ثم تسليم الأمور للسلطة الجديدة التي سينتخبها الشعب، لأن الاستغراق اليوم في القضايا السياسية والدستورية ينهش في آمال الملايين الذين ثاروا من أجل الخبز والحرية وأيضا العدالة الاجتماعية. ولا بد لمن يدير شئون البلاد اليوم أو من يحكمها غدا أن يتذكر أن طريق عبدالناصر إلي قلوب الملايين قد بدأ مع تطبيق فكرة العدل الاجتماعي والانحياز إلي الفقراء. ما الذي جعلني أتورط وأستخدم تعبير «قلوب الملايين». لقد قلت إنني لا أريد رئيسا نحبه ونعتمد عليه، لا أريد رئيسا نترك له الفعل ونتحول نحن إلي مشاهد يصفق، لا نريده علي طريقة رثاء نزار قباني لجمال عبدالناصر: «تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ.. تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ وتعري.. وتشقي.. وتعطشُ وحدكْ.. ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً ونتركهم يعلكونَ الهواءْ''. وإنما علي طريقة محمود درويش في رثائه له بأننا: نعيش معك نسير معك نجوع معك وحين تموت نحاول ألا نموت معك نريد رئيسا لا نكتب له أو عنه أغنيات للنفاق أو حتي أغنيات من أجل الحب الحقيقي، نريد رئيسا يكون مواطنا بدرجة رئيس جمهورية. لا نريد رئيسا علي طريقة قول نزار قباني عن عب د الناصر: ''قتلناكَ.. يا حُبّنا وهوانا وكنتَ الصديقَ، وكنتَ الصدوقَ، وكنتَ أبانا''. لا نريد الرئيس الأب، لا نريده أبانا، فالأب لا يمكن نزعه من كرسي الأبوة، لكن الرئيس يحق لنا إذا أفسد أو أهمل أو أخطأ أن ننزعه من كرسي الرئاسة. فيا أيها الرئيس القادم لا نريد حبا وأبوة، بل نريد حقوقا وواجبات، نريد محاسبة ومراقبة ومشاركة. ويا أيها الشعب العظيم: «الشعب يحب مرّة، مايحبش مرّتين».