مازلنا نتأمل في سورة الفاتحة، وحلاوة استحضار معني ماورد بها من آيات. وإذا كانت الفاتحة تبدأ مع «بسم الله الرحمن الرحيم» ومباشرة نحمده سبحانه «الحمد لله رب العالمين» ثم تعود صفة الله الرحمن الرحيم من جديد مع الآية التالية «الرحمن الرحيم»، فإن في تفسير هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا في «المنار» إن «بسم الله الرحمن الرحيم» مقدمة للسور كلها إلا سورة «براءة» المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين، باعتبارها بلاء علي من أُنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم. فمعني الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله. وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالي مع بيان ربوبيته للعالمين، فالرحمن: الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده. الرحمن دال علي الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال علي تعلقها بالمرحوم. وكأن الأول الوصف، والثاني الفعل. فالأول دال علي أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني دال علي أنه يرحم خلقه يرحمته، أي صفة فعل له سبحانه. ويضيف الشيخ رشيد رضا: إن العبد يجب أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالي. «ملك يوم الدين» فالله الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين علي أعمالهم. و(الدين) يُطلق في اللغة علي الحساب وعلي المكافأة، وورد «كما تدين تدان». وينبهنا الشيخ رشيد رضا إلي أن الله سبحانه قد أعقب ذكر الرحمة بذكر الّدّين، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم علي أعمالهم، فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما: الترغيب والترهيب. «إياك نعبد وإياك نستعين»، يصف الشيخ رشيد رضا العبادة بأنها نوع من الْخُضُوعِ بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدريك كنهها وماهيتها. وقصاري ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه. ويضيف إن عبادة الله تعالي هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، ثم إن لفظ «الاستعانة» يُشعر بأن يطلب العبد من الله تعالي الإعانة علي شيء له فيه كسب ليعينه علي القيام به، وفي هذا تكريم للإنسان يجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه، إرشاد له إلي أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة ولا من هدي الشريعة. أما تقْديم «إِيَّاكِ» علي الفعلين «نعبد» و«نستعين» فهي إفادة الاختصاص والحصر. «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». معني الهداية لغة من أنها: الدلالة بلطف علي ما يوصل إلي المطلوب. وليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التموج والتعاريج، بل المراد كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها. وهي جملة ما يوصلنا إلي سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم. نأتي إلي المغضوب عليهم فهم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به. إنما هناك أيضا من بلغته الدعوة علي وجه يبعث علي النظر، فساق همته إليه، ولكن لم يوفق إلي الإيمان بما دُعي إليه، وانقضي عمره وهو في الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادا متفرقة في الأمم ولا يعم حاله شعبا من الشعوب، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة. كما أن هناك من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف علي أصولها، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وألهمنا اجتنابه.