(المرأة التى تهز المهد بشمالها، تهز العالم بيمينها). جملة صغيره نطق بها نابليون بونابرت يوماً ما، اختصرت كلاماً كثيرا يمكن أن يقال عن أهمية دور المرأة فى بناء مجتمع قوى؛ فالطريق إلى الإصلاح السياسى والاجتماعى غالباً ما يبدأ من عقل المرأة. وقد بدا هذا واضحاً عند العديد من التنويريين والإصلاحيين الذين تبلورت أفكارهم فى بدايات القرن الماضى عندما ظهرت لهم صعوبة المقارنة بين مجتمع بلادهم المتخلف والمجتمع الأوروبى المتحضر، أمثال الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغانى وطه حسين وغيرهم من أسماء فى قائمة طويلة تمتد طولاً وعرضاً لتغطى جغرافية الوطن العربى كله، ففى فرنسا حاول قاسم أمين الاقتراب من واقع المجتمع الفرنسى بملابساته وتفاصيله، وأراد أن يرى المرأة المصرية صورة من المرأه الغربية وأن تكون المرأة متساوية مع الرجل فجاء بأفكار الغرب لتطبيقها داخل المجتمع المصرى. ولكن ثمة ميزة أساسية جعلت من قاسم أمين 3681 - 0891 يتفرد، ويكون له نكهة خاصة، بين سائر مفكرى ومصلحى عصر النهضة آنذاك، فهذا الرجل الذى عاش قرابة السبعة وثلاثين عاماً من القرن التاسع عشر وحوالى الثمانى سنوات من القرن العشرين جعل لنفسه، من بين مفكرى وكتاب تلك الحقبة طعماً خاصاً مميزاً، وذلك من خلال القضية التى حملها على كتفيه، جاعلاً منها، ومن إيجاد حل لها، سبيلاً إلى النهضة والتقدم. فقاسم أمين- فى خطابه النهضوى الإصلاحى- لم يعالج مثلما فعل غيره من أقطاب النهضة قضية السلطة السياسية، أو قضية الاستبداد، أو قضية العلاقة بين الشرق والغرب، أو الإسلام والعروبة، أو كيفية الموازنة والملاءمة بين مفاهيم الغرب ومفاهيم الإسلام، وإنما طرح على بساط البحث مسألة أخرى، مختلفة كلياً وهى كيف نحرر المرأة فى المنطقة العربية - الإسلامية، وكيف السبيل إلى إعطائها بالقدر الذى يؤهلها للعب دور مؤثر، كتفاً إلى كتف مع الرجل، فى نهضة المجتمع وتقدمه. إنها إذن، قضية مختلفة عن سائر القضايا التى تولى معالجتها مفكرو ومصلحو عصر النهضة الآخرون. فى كتابه الصدمة «تحرير المرأة» يناقش قاسم أمين وضع كل من الأممالغربية والأمة العربية. فيجد أن الأممالغربية «الأوروبية» قد بلغت ما بلغته من التقدم لنشاطها الدائم وديناميكيتها التى لا تسمح لها بالتوقف، فهى لم تترك وسيلة من الوسائل إلا واستعملتها فيما يعود عليها بالمنفعة. بينما العالم العربى ما زال راكداً يحلم بما كان عليه فى زمن مضى.. ويتطرق إلى نظرية داروين «قانون التزاحم فى الحياة» والبقاء للأقوى، فيحذر الأمة العربية بالخطر المحدق بها، ويقترح أن يبدأ الحل من الإنسان أو المواطن نفسه ولا ينتظر الحكومة لتأخذ إجراءاتها بينما يظل هو واقفاً فى مكانه لا يتقدم. وعلى ذلك فإن دعوة قاسم أمين لم تكن لتقتصر على تخفيف الحجاب أو التعليم الابتدائى، بل ما سعى له كان أكثر توسعاً وشمولية. فهو كان يطمح لتغيير جذرى فى الأوضاع القائمة وفى العادات والبديهيات وهذا يبدو واضحاً فى كتابه «المرأة الجديدة»، لكنه فضل الابتداء من أصغر الأمور وأقلها أهمية حتى إذا تخمرت جذور أفكاره فى أذهان الناس توسع فى الأمر شيئاً فشيئاً. فلا أحد يستطيع تغيير صور المرء الذهنية ومعتقداته جذرياً بشكل مباشر وسريع، لكن قاسم فى ذلك الوقت حاول أن ينشل الأمة مما هى فيه من تخلف وانحطاط وضعف بطريقة مغايرة عن طرق المقاومة المسلحة والخطاب الوطنى الحماسى. ولكل طريقته ومذهبه فى خدمة قضيته ووطنه. فجاءت أفكاره استثنائية أحدثت ضجة كبيرة فى الشارع العربى مما يدل على نجاحها، رغم قسوة المعارضين والمهاجمين الذين لم يكونوا من الفقهاء وعلماء الدين فحسب بل من عامة الشعب والنساء أيضاً. اعذرونى .. فأنا من أكثر المتحيزين لأهمية دور المرأة ومن أكثر المعجبين بهؤلاء الرواد التنويريين الذين حظى بهم القرن الفائت وأيضا أكثر المتطلعين إلى ذلك الرائد المنتظر الذى سيغير كثيراً من ذلك الواقع الملتبس الذى نعيشه هذه الأيام .. وأتحسر كثيرًا على من يسمون أنفسهم بالنخبة الذين لا نجنى من ورائهم سوى الصراخ والضجيج والكثير من الفتن والصراعات.