رغم مرور أكثر من أربعة أيام علي الحادث المأساوي الذي خلف وراءه حسرة وحزنا عميقا ألبس شوارع قرية بني حدير التابعة لمركز الواسطي ببني سويف ثوب الحداد إلا أن هذا الحزن لايزال يخيم علي رجال القرية الذين لا تفارقهم نظرة الأسي ونسائها اللاتي اتشحن بالسواد وفتياتها وأطفالها الذين التزموا الجلوس داخل منازلهم بعدما غابت عنهم الفرحة والسعادة لفقدان جيرانهم وأصدقائهم في كارثة أتوبيس «الموت» الذي غرق في النيل الجمعة الماضية فراح ضحيته 17 قتيلا ونجا 171 شخصا وإصابة سيدتين تم نقلهما إلي أحد المستشفيات بالقاهرة. وما أن تطأ قدماك أرض قرية بني حدير لن تخطأ عيناك منازل عائلتي «أبو حسين» و«عبد المولي» ضحايا معدية أشمنت لأن أهاليهم لايزالون يتلقون العزاء في مصابهم في سرادق العزاء الجماعي بالقرب من منازلهم، كما أن البكاء والنحيب والصراخ لا يكاد ينتهي حتي يبدأ من جديد حزنا وكمدا علي ضحايا الأتوبيس المنكوب. «صباح الخير» رصدت تفاصيل الحادث المأساوي مع أهالي الضحايا والناجين. - سرادق عزاء في البداية اقتربنا من سرادق العزاء الذي لم يخل من معزين منذ صباح السبت الماضي فخرج إلينا حسين أحمد حسين - أحد الناجين - بخطوات متثاقلة تسبقها صرخة شاب فقد أخاه عادل قبل أقل من أربعين يوما إثر إصابته بأزمة قلبية مفاجئة أثناء مباراة لكرة القدم بمركز شباب الميمونة ثم عاد ليفقد زوجته مها فوزي عبدالظاهر التي لم يمض علي زواجها به أكثر من ستة أشهر ووالدته سرية قرني جنيدي وأخواته الثلاث إكرام ورحاب وهويدا، إضافة إلي ابنة أخيه.. المصاب جلل وصعب للغاية حتي أن قلبه وعقله لم يتحملا هذه الصدمة المفجعة، أما حالته النفسية فساءت للغاية رافضا التحدث إلي أي أحد ولزم الصمت لفترة طويلة حتي فاضت عيناه بالدموع حزنا وكمدا علي فراق ذويه الذين ماتوا غرقا أمام عينيه إلي أن هدأ بعض الشيء وبدأ يستجيب للحديث معنا وهو يتمتم «الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه». - صرخات الاستغاثة بقلب مكلوم ودموع تعتصر القلوب بدأ حسين حديثه عن تفاصيل الحادث الأليم قائلا: اسمي حسين أحمد حسين - نقاش، مع اقتراب موعد الأربعين علي وفاة أخي عادل عزمت والدتي وأخواتي الفتيات والجيران علي زيارته في مدفنه بالبر الشرقي يوم الجمعة قبل الماضية فقررنا الاستعانة بأتوبيس خاص لكي يقلنا إلي هناك، لكن سائقه طارق صلاح عبدالحليم اعتذر ووعدنا بأن يأتينا في الجمعة التي تليها مباشرة وبالفعل جاءنا الجمعة الماضية أمام باب المنزل في حوالي السادسة صباحا وتوافد الأهل والجيران للركوب في الأتوبيس الذي كان يحمل رقم 50297 رحلات جيزة، وبدأ التحرك في حوالي السادسة ونصف صباحا في اتجاه المكان المخصص لمعدية ''أشمنت'' باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي تقل السيارات والدراجات البخارية والأفراد من البر الغربي إلي الشرقي الموجود به «المدافن». وأضاف: وصلنا إلي المعدية الساعة السابعة وانتظرنا نصف ساعة ثم ركبنا المعدية، لكن اللافت أنها كانت تحمل علي متنها سيارات كثيرة مما زاد من الحمولة المقررة لها، إضافة إلي عدم وجود أي تجهيزات كافية لضمان عدم اندفاع الحمولة الموجودة علي المعدية إلي الخارج، وللأسف الشديد حدث ما لا يحمد عقباه، فبمجرد وصولنا إلي مرسي البر الشرقي في حوالي الساعة الثامنة إلا ربع ارتطمت المعدية بالمرسي بقوة لعدم انتباه قائد المعدية لمسألة تقليل سرعتها عند اقترابها من أرض المرسي مما أدي إلي اختلال توازنها، وبالتالي سقوط الأتوبيس في النيل ليصارع المتواجدون بداخله الموت، فانطلقت لحظتها صرخات الاستغاثة من الجميع لكن دون مجيب، ولم تمر ثوان حتي غمرت المياه الأتوبيس من الداخل عن آخره. وتابع قائلا: عندها وجدت فتحة التهوية «''طاقة النجاة» الخاصة بسقف الأتوبيس فتعلقت بها إلي أن وجدت نفسي في الخارج وبدأت علي الفور مع عدد من الناجين في إخراج جميع المتواجدين بداخل الأتوبيس بمساعدة أصحاب المراكب وأهالي القرية الذين تجمعوا فور علمهم بالحادث علي عكس فرق الإنقاذ النهري أو شرطة المسطحات المائية التي جاءت متأخرة بعد ساعة ونصف من وقوع الحادث ثم جاءت سيارة الإسعاف في حوالي العاشرة صباحا لتقل المتوفين والمصابين إلي المستشفي. - وهنا فاضت عيناه بالدموع الساخنة.. لكنه عاد ليستكمل حديثه: لا يمكن أن تعوض خمسة آلاف جنيه لحظة واحدة من اللحظات التي كنت أري فيها ابتسامة والدتي ودعائها لي أو نظرة حنان من زوجتي أو فرحة في عيون أخواتي الفتيات، كنوز الدنيا كلها لا تغني عن أي واحد منهن، الغريب أنه لا يوجد أي تغيير في قريتنا «بني حدير» لا قبل الثورة ولا بعدها ولولا هذا الحادث الأليم لما قام أعضاء المجلس المحلي بنظافة الشوارع وإنارتها لمجرد أن السيد المحافظ ماهر الدماطي جاء ليعزي في المتوفين، أما دون ذلك فحدث ولا حرج. - ولفت الشاب المكلوم إلي نقطة مهمة: صحيح أن الحادث قضاء وقدر ولا راد لقضاء الله، لكن الحمولة الزائدة والسرعة الكبيرة للمعدية عند وصولنا إلي البر الشرقي كانتا سببا رئيسيا وراء الحادث، والمسئولون عن المسطحات المائية غائبون عن الحادث إضافة إلي أن المعدية كانت غير مؤمنة تماما بأي تجهيزات في حال تكرار وقوع أي حادث مشابه، ولو أن هناك إسعافا مجهزا بالقرب من المكان لكان من الممكن إنقاذ كثيرين من الضحايا الذين فاضت روحهم عقب إخراجهم من داخل الأتوبيس «الغارق»، فلو أن الحكومة المصرية تهتم بمشاكل قريتنا - التي لا يعرف عنها أحد أي شيء إلا عند وقوع حادث مروع - لما وقعت هذه الأحداث المؤلمة والمفجعة. - الأتوبيس المنكوب - بيوت الحزن باتساع الكون حتي لو حاول بعضهم تلمس الهدوء وسط الأصدقاء.. بصوت خافت.. مختنق.. تكاد تسمع الكلمات التي ينطق بها رفعت أحمد حسين الذي تحدث معنا بكلمات مقتضبة: لم أكن موجودا داخل الأوتوبيس المنكوب لأنني سبقتهم علي البر الشرقي الموجود به المقابر إلا أنني عندما علمت بالحادث لم أصدق حتي الآن تلك المصيبة التي ألمت بأسرتي. لحظات من الصمت تسود المكان لا يقطعه إلا صوت: خلاص توفيت والدتي وأخواتي الفتيات وأصبحت بعد رحيلهن «بقايا إنسان» لكنها إرادة الله ثم دعا لهن قائلا: «اللهم ارحمهم واغفر لهم». - بيت آخر حزين.. بيت أول الناجين «خالد عبدالعال أحمد» الذي توفيت زوجة أخيه في الحادث الأليم، أوضح: توفي جارنا عادل لاعب كرة القدم يوم 23 مارس الماضي فقررنا الذهاب مع أسرته لزيارته في قبره وقراءة الفاتحة علي روحه الطاهرة، وركبنا الأتوبيس مع باقي أفراد الأسرة متوجهين إلي معدية أشمنت التي تبعد عن قرية بني حدير حوالي 8 كيلومترات، الزحام كان علي آخره بالمعدية التي كانت تحمل إلي جانب الأتوبيس 10 مركبات ما بين سيارات ملاكي وربع نقل وموتوسيكلات تجمعت كلها في المنطقة المحيطة بالأتوبيس، لكننا فوجئنا بمجرد وصول المعدية إلي البر الغربي بهزة شديدة نتيجة ارتطام قوي بين المعدية وأرض المرسي أدت إلي حدوث ميل المعدية إلي الخلف انزلق علي إثرها الأتوبيس، لكن أحد الأشخاص حاول وضع الموتوسيكل الخاص به تحت عجلات الأتوبيس لمنعه من الانزلاق لكن لم يجد ذلك نفعا فسقط في النيل، سمعنا أصواتا في الخارج كانت تقول «حاسب .. حاسب» بينما تعالت أصوات صرخات النساء والأطفال بداخل الأتوبيس. - مفاجأة مذهلة وعاد ليستكمل: المفاجأة كانت مذهلة وغير متوقعة بالمرة، بعدها سمعت بعض السيدات يقمن بتلاوة الشهادة بعدما تأكدن أن النجاة لن تكتب لهن، بعدها غمرت مياه النيل الأتوبيس حتي ارتفعت لحوالي 20 سم فوق سطحه، ولأنني مكتوب لي أعيش كنت أجلس خلف سائق الأتوبيس مباشرة أي بالقرب من فتحة التهوية التي تعلو سقف الأتوبيس مباشرة فتوجهت إليها مباشرة فكنت أول الناجين ثم وقفت علي سطح الأتوبيس وبدأت مع غيري من الناجين وعدد من «المراكبية» في مساعدة السيدات والأطفال للخروج من خلال شبابيك الأتوبيس، ونحمد الله أن هذا الأتوبيس سقط بالقرب من مرسي البر الشرقي ولم يسقط في وسط النيل وإلا فقد الجميع حياته ولم ينج أحد. وأضاف: لا أخفي عليك سرا أنني شاهدت الموت بعيني، لذلك بعد خروجي مباشرة حمدت الله علي النجاة، ثم بدأت في المساعدة لإنقاذ الموجودين بداخل الأتوبيس فخرج معي مصطفي حسين وعبد التواب أحمد حسين وسعيد أحمد عبدالمولي، هول اللحظة دفعنا إلي محاولة فعل أي شيء لإنقاذ الموجودين بالداخل وهو ما حدث فيما عدا ثلاثة أشخاص هم شهد وهدير وسيد محمد شلبي الذين أخرجتهم شرطة المسطحات المائية متوفين. وغطي الحزن وجه خالد قائلا بمسحة إيمانية: رغم أن الحادث لم يستغرق طويلا، لكن الدقائق مرت كأنها سنوات حتي أن مشهد الضحايا الذين أخرجناهم من أتوبيس «الموت» إلي البر الشرقي لن يغيب عن عيني مهما حدث، الكل كان يتلقاهم بالبكاء الشديد، وعلي كل حال قدر الله وما شاء فعل عندما جمع كل هؤلاء الأشخاص في وقت واحد ليعزل الحي من الميت وهو علي كل شيء قدير. وأضاف: لا أستطيع أن أصف اللحظة التي جاءت بعد خروج جميع الحالات.. كله انهار.. إحنا كنا واقفين بنلطم.. كله بيعيط ولا أحد يصدق ما حدث خاصة أنه لم يقع حادث شبيه لذلك من قبل. واختتم الحديث سيد عبدالستار - أحد الناجين: هناك تقصير من المسئولين عن المسطحات المائية والإنقاذ النهري ولا توجد رقابة علي المعديات ولا يوجد بها أي أمان، لذلك أتمني صيانة المعديات والتشديد علي تطبيق الاشتراطات الفنية والأمنية حفاظا علي أرواح المواطنين واتخاذ الإجراءات القانونية في حالة أي تقصير، إضافة إلي أن لدينا كوبري الواسطي الذي لم يتم الانتهاء منه حتي الآن رغم بدء العمل فيه منذ أكثر من 15 عاما ولا أعرف لماذا يتكاسل المسئولون في إنهاء الإنشاءات الخاصة به، وأتمني الانتهاء منه ليحل أزمة العبور من البر الغربي إلي البر الشرقي وعدم تكرار مثل هذه المأساة مرة أخري