من واشنطن: محمد مقبل «حين تلامس الموسيقى الروح..» شعارٌ يرفعه أوركسترا «ليالى زمان» فى مقاطعة «بيفرلى هيلز» بولاية كاليفورنيا الأمريكية، ضمن برنامجه لتعريف المجتمع الأمريكى فى أقصى غرب الولاياتالمتحدة بإبداعات موسيقى الشرق الأوسط والتذكير برموز فنه المبدعين وعلى رأسهم كوكب الشرق. وتأتى الفعالية استكمالًا للاحتفال بذكرى رحيل سيدة الغناء العربى قبل خمسين عامًا فى فبراير من مطلع العام الجارى والذى شهده مسرح «بيفرلى هيلز» وأعد له احتفالية موسيقية خاصة قدمت لجمهور المتابعين من أبناء الجاليات العربية والأمريكيين من أصول مصرية وشرق أوسطية، باقة من أشهر إبداعات أم كلثوم التى تغنى بها المستمعون فى مصر والعالم. ولا تقتصر أمسية «ليالى زمان» هذه المرة على تقديم مقتطفات منتقاة من إبداعات سيدة الغناء العربى الرومانسية، وإنما تمتد لتشمل بعض مقطوعاتها الوطنية الخالدة التى رسّخت بها فى الأذهان مبدأ اتصال الفن الوثيق بالمجتمع وتناغمه مع آمال وأحلام وتطلعات أبنائه من مختلف الفئات خاصة فى أوقات الشدائد والحروب. وفى هذا السياق أوجد أوركسترا «ليالى زمان» الرابط بين ذكرى ميلاد أم كلثوم الفنانة المبدعة من جهة وكوكب الشرق صاحبة الدور الوطنى فى تطويع الإبداع الفنى لخدمة المجتمع فى أوقات المحن من جهة ثانية. وقد عززت أم كلثوم خلال مشوارها الغنائى مبدأ الفن الذى يخدم الوطن ويعكس آماله ويواكب التحديات التى تعوق مساره فكانت خير مثال للفنان الذى يتفاعل مع قضايا مجتمعه ويعكس آماله وأحلامه وطموحاته. كانت البداية حين نزحت أم كلثوم مع عائلتها من قرية «طماى الزهايرة» بمحافظة الدقهلية إلى القاهرة لتستقر فيها مطلع عشرينيات القرن العشرين، وحينها تفتح وعيها كمطربة ناشئة على محيطها السياسى إبان ثورة 1919، ومطلب الجلاء والاستقلال لا يزال رطبًا على ألسنة رجال الوفد ورموز القوى الوطنية فى الشارع المصرى. ولم تغب إبداعات أم كلثوم آنذاك عن نبض الجماهير فغنت عام 1927 قصيدة رثاء لزعيم الأمة سعد زغلول فى كلماتٍ معبرة من تأليف الشاعر أحمد رامى وألحان محمد القصبجى: إن يغب عن مصر سعد فهو فى الذكرى مقيم ينضب الماء ويبقى بعده النبت الكريم ولم يكن رثاء سعد زغلول إلا بمثابة تجديد للدعوة إلى مواصلة الكفاح الوطنى للحصول على الاستقلال. وتتوالى الأعوام لتعود أم كلثوم إلى استنفار الحس القومى فى قصر عابدين حين غنت بمناسبة ميلاد الجامعة العربية عام 1945 قصيدة زهر الربيع.
ولم تقف أم كلثوم عند هذا الحد، وإنما مضت فى تطويع إبداعها لخدمة الوطن وقضاياه، فغنت «سلوا قلبى» فى عام 1946 من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقى وألحان رياض السنباطى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وما كان من نكوص الإمبراطورية البريطانية عن وعدها بمنح مصر استقلالها. فكرس نموذج (كوكب الشرق) لدور الفنان الذى يتفاعل مع قضايا وطنه ويطوع إبداعاته ليس لهدف الترفيه والتسرية فحسب وإنما يمتد لخدمة إلى هدف التثقيف ونشر الوعى واستنفار العزائم متى دعت الضرورة. وأنشودة «مصر تتحدث عن نفسها» لشاعر النيل حافظ إبراهيم، أو كما يعرفها جمهور أم كلثوم ب«وقف الخلق»، من أبرز وطنيات (كوكب الشرق) التى تجسدت خلالها موهبتها سواءٌ فى اختيار كلمات أغانيها أو فى انتقاء مضمون الرسالة الإبداعية التى تضمها قصيدة وطنية على هذا القدر من فصاحة التعبير ورقى الإحساس. ورسخت أم كلثوم بهذه القصيدة مكانها كأيقونة من رموز الأغنية الوطنية ومثال يحتذى فى كفاح الفنان المبدع ضد العدوان، إذ تم تخصيص إيراد الحفل لجمع التبرعات لصالح شهداء حرب فلسطين. ولم يقتصر دور أم كلثوم الوطنى على تلك المحطة التاريخية المفصلية فقد أخذت زمام المبادرة بعد هذا التاريخ بنحو عقدين من الزمان وفى أعقاب 1967 فرفعت حينها شعار «الفن من أجل المجهود الحربى». ولم تقتصر جهودها فى هذا المضمار على إقامة الحفلات التى احتضنتها المسارح المصرية وجمع التبرعات من مرتادى تلك الحفلات وإنما عبرت البحر المتوسط لتصل إلى أعتاب مسرح أوليمبيا فى باريس عام 1967 الذى احتضن على خشبته باقة من أجمل إبداعاتها وتم خلال الحفل تحصيل مبالغ كبيرة من عوائد التذاكر تبرعت بها أم كلثوم لصالح دعم المجهود الحربى فصارت نموذجًا حيًا يكرس لمفهوم القوة الناعمة التى تجعل من الإبداع ميدانًا للكفاح، وتهيئ من الفن ساحة لمقاومة العدوان ومضمارًا لشحذ الهمم واستنفار العزائم وبث الروح الوطنية.
وقد نالت أم كلثوم عن جهودها فى هذا المضمار احترام وتقدير الملوك والأمراء والرؤساء فضلًا عن ملايين المعجبين من المحيط إلى الخليج وصولًا إلى أوروبا وحتى سواحل كاليفورنيا و«بيفرلى هيلز» التى أفردت هذه الأيام فى مسارحها مساحة للاحتفال بذكرى ميلادها الذى يوافق 31 من ديسمبر. وتظل أم كلثوم وبعد مرور نصف قرن على رحيلها تحظى بعرفان شعبٍ أصيل عرف فى وجدانها عاطفة بنت البلد الغيورة على مصلحة وطنها، وتقدير جيشٍ شامخ لمس فى إبداعها حافزًَا أقوى تأثيرًا من البندقية وأمضى أثرًا فى استنهاض الهمم من طلقات الرصاص، ثم وقبل كل هذا، امتنان أمٍ جادت بدماء ولدها فداء لكرامة وطن وعزة أمة عريقة لم تعرف فى تاريخها فنانة أرقى إبداعًا ولا أعمق أثرًا.. من سيدة الغناء العربى.. كوكب الشرق.. أم كلثوم.