الحرب كرٌّ وفرٌّ.. هكذا قال القدماء والحكماء، وهكذا فهموا، وهكذا نقلوا إلينا من شعرهم وملاحمهم وأساطيرهم وأمثالهم وتجارب حياتهم وموتهم. والحرب فى كرها وفرها وحتى فى استقرارها وخمودها، تتطابق تمامًا مع حياتنا الدنيا التى نحياها ولا نحياها، فما الدنيا إلا حربٌ سرمدية دائمة.. حربٌ بين الإنسان والطبيعة، وحرب بين الطبيعة والطبيعة، وحرب بين الدول والدول، وحرب بين الإنسان والإنسان، بل هى -فى المقام الأول- حرب بين الإنسان ونفسه.
من هنا، فقد وعى الإنسان القديم الذى ظهر فى كل حضارات العالم هذه القاعدة الراسخة الصارخة المكينة، فراح يطبقها بحذافيرها، وراح يولى كل اهتماماته بتطوير أسلحته فى مواجهة شرور الطبيعة وتقلباتها حتى يأمن غدرها ثم يطوعها لما فيه مصلحته ومصلحة ذريته من بعده. وكانت الحضارة الصينية من أوائل تلك الحضارات التى اهتمت بفنون الحرب وكان لها فيها باع طويل طويل؛ لذا فقد خصصت لها مساحات واسعة من التفكير والتأمل والبحث والدراسة. وهنا لابد أن نذكر ذلك النموذج الإنسانى الفريد المتمثل فى ذلك الرجل الصينى العبقرى المدعو «سون تزو» الذى ظهر على سطح البسيطة فى العام 551 قبل الميلاد، والذى ذاع صيته فى الأقاصى والأدانى وما بينهما، وذلك بسبب عبقريته العسكرية والإنسانية التى قلما يجود الزمان والمكان بمثلها.
عاش «سون تزو» بمحافظة يطلق عليها «هوى مين» بكوكب الصين العظيم. وكان شاهد عيان على كل التحولات السياسية والاجتماعية الثقافية التى وقعت فى الصين آنذاك، حيث تحوّل الإنسان الصينى من النقيض إلى النقيض.. من مجتمع العبيد إلى مجتمع الإقطاع، وهو ما أدى إلى نشوب سلسلة من الحروب الطويلة بين الممالك لم تكن تنتهى إلا لتبدأ، ولا تبدأ إلا لتنتهى. وهو الأمر الذى أدى فى نهاية الشوط إلى ظهور عدة ممالك وإمبراطوريات قوية جدًا كان من شأنها أن تنازعت السلطة والصولجان فيما بينها. ولأن هذه الحروب الطاحنة لم تكن أبدًا بمعزل عن «سون تزو»، ولم تكن أبدًا تفلت من مخيلته الإبداعية المتقدة وقريحته الإنسانية الشفافة الذكية اللماعة، فقد وضع الحرب تحت نظرته الفاحصة ومنظاره الدقيق؛ فراح يعمل فيها فكره وعقله وكل جوارحه؛ ناقدًا أحيانًا ومفسرًا أحيانًا ومؤيدًا فى أحيان أخرى، ثم كان أن خرج علينا بهذا الكتاب الصغير الخطير الذى يحوى خلاصة هذا التفكير الخلاق حول الحرب وفنونها المختلفة وأخلاقياتها المتسعة المتشعبة. ولم يكن سون ليستطيع أن يخرج علينا بهذه الأفكار العسكرية الساطعة إلا من خلال عزلة طويلة كان من شأنها أن سوت أفكاره على نار هادئة، بعيدًا عن الزحام المميت وبعيدًا عن الفارغين من الموهبة والمزاحمين بالمناكب لخطف أجزاء من الوليمة؛ لذا نراه وقد راح يقيم فى قرية ريفية بعيدة عن كرسى الملك وصولجان الحكم والإدارة، ذلك لأن الملك قد أغرته الانتصارات الحربية فلم يسمع لأحد، ولم يأخذ باقتراحات أحد. ولم ير أحدًا. وكتاب فن الحرب الذى نقدمه هذا الصباح إلى القارئ الكريم كى يطالعه ويستمتع به هو أول كتاب عسكرى قديم فى العالم، وهو يحوى مجموعة من المبادئ والنظريات العسكرية الصينية التى كتبت قبل 2300 عام بواسطة سون تزو، يضع فيها قواعد وأساسيات وأطر النصر العسكرى والحربى على العدو بأقل التكاليف وأسرع الطرق.. تبدأ هذه الطرق بالحيطة والحذر وتنتهى بتجنيد الجواسيس والعملاء والخونة. وعلى الرغم من أن سون كان من أشد الناس معارضة للحل الحربى بين الدول والجماعات؛ لكنه فى الوقت نفسه لم يجد بدًا من التعامل بمنطق الواقعية الصريحة، خصوصًا عندما باتت الحروب شرًا وبيلًا لا بد منه، فكان لزامًا عليه التعاطى معها والقفز فى أتونها والخروج منها سالمًا غانمًا.. وعليه فقد قرر كتابة هذه المجموعة من المبادئ الحربية التى لا غنى عنها لأى شعب أو جيش قرر الدخول فى حرب مع الأعداء، أو مع الأصدقاء إذا اضطره الأمر، أو مع كل من يفكر فى تهديد حدوده ووجوده ومصيره ومسيرته. ويشرح سون من خلال هذا الكتاب الاستثنائى كيفية تحقيق النصر المؤزر على العدو من دون قتال ومن دون إراقة نقطة دم واحدة. ولعل ذيوع صيت هذا الكتاب يعود إلى إمكانية ما جاء فيه من مبادئ ونظريات ألقت بظلالها على مناحٍ أخرى كالاقتصاد والتجارة والصناعة والتسويق والتعليم، والصحة، وغيرها. وفى النهاية، نقول إن كتاب سون يعد بحق أهم وأندر المخطوطات القديمة فى العالم أجمع؛ لذا فهو الكتاب الاستراتيجى والعسكرى الأهم فى تاريخ البشرية بلا منازع، فكاتبه رجل عسكرى عظيم وأستاذ لصفوة القادة العسكريين فى زمنه ممن استوعبوا مبادئه، بداية من محاربى الساموراى اليابانيين ومرورًا برائد النهضة الصينية ماو تسى تونج، وانتهاء برجال السياسة والأعمال المتمرسين والمتمترسين فى عصرنا الحالى.