عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    واشنطن بوست: أمريكا دعت قطر إلى طرد حماس حال رفض الصفقة مع إسرائيل    "جمع متعلقاته ورحل".. أفشة يفاجئ كولر بتصرف غريب بسبب مباراة الجونة    كولر يرتدي القناع الفني في استبعاد أفشة (خاص)    الأرصاد الجوية: شبورة مائية صباحًا والقاهرة تُسجل 31 درجة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    حسين هريدى: الهدف الإسرائيلى من حرب غزة السيطرة على الحدود المصرية الفلسطينية    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    رئيس المنظمة المصرية لمكافحة المنشطات يعلق على أزمة رمضان صبحي    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    التموين تتحفظ على 2 طن أسماك فاسدة    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 4 مايو 2024    هيثم نبيل يكشف علاقته بالمخرج محمد سامي: أصدقاء منذ الطفولة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    فوزي لقجع يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة الاتحاد الأفريقي    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وادى الريحان.. تراث وطن
قراءة فى رواية الميراث لسحر خليفة
نشر في صباح الخير يوم 13 - 12 - 2023

«هون حياتى، هاى حياتى، وما إلى غيرها»، «إنا نقعد على بئر نفط ومصارى ورصيد عظيم»، «قلعتنا رمز العالم لأن العالم انكشف لنا واكتشفنا من خلاله تراثا لا يُقهر، هذا تاريخ، هذه حضارة، وتلك ثقافة»، «قلعة كبيرة وعالية نقطف منها الدالية».
هكذا شكلَّت مدينة «وادى الريحان» أحلام أبنائها، يحلمون بمدينتهم، يقتربون، يُهجرون، لكنهم يعودون إليها فهى العالم وهى الثقافة وهى الدفء والأهل والونس.
تطالعنا رواية «الميراث» لسحر خليفة، الرواية الصادرة عن دار الآداب ببيروت، بأبناء مدينة «وادى الريحان»، وهم يأخذون قرار العودة إليها، بعد «أوسلو»، عاد كل من يستطيع العودة إلى المدينة التى تم تغيير اسمها ومعالمها، اسمها «تل الريحان»، ويسميها المحتل «كريات راحيل»!
شارع من فلسطين قديما

ابن الدنيا
تترك «زينب» مهجرها حيث تعيش فى أمريكا لتعود إلى مدينتها، أمها أمريكية، وجدتها أمريكية لكن أباها فلسطينى نجح فى تكوين ثروة فى الغربة، لكنه تركها لجدتها إثر نزاع عائلى عنيف، «زينب» تفصح عن تفاصيل هذا النزاع، ومن خلال مونولوج داخلى تصوِّر غربتها فتقول:
(قبل ضياعى، لغتى ضاعت، هويتى ضاعت، كان اسمى بالأصل «زينب حمدان» ثم مع الوقت أصبح «زينة»، كان الوالد «محمد حمدان»، ثم مع الوقت صرت بلا محمد أو حمدان أصل الوالد من «وادى الريحان»، وأنا ولدت فى «بروكلين» و«الضفة»، مفعول الجدة والوالد، كان يقول: إنه ابن الدنيا، فقد لف العالم ورأى كل شىء، وسمع كل شىء، ولم يبق شىء يثير دهشته أو أعصابه، ومع ذلك كان يهتز ويبدأ بالبكاء لمجرد ذكر اسم صديق أو قريب من دمشق أو بيروت).
ذوب العسل
وتعترف زينب بغربتها الداخلية، بحنينها إلى البلاد التى لم ترها، وهى تسكن تحت جلدها، وفى خفقات قلبها تقول: (بالرغم من جنسية أمى، شهادة ميلادى، شهادة مدرستى، كتبى، لهجتى، ملابسى، وكل حياتى لست أمريكية حقًا، وفى الأعماق لست أمريكية حقًا، تلك الأعماق المسكونة برؤى وصور، بمواويل شوق تلوح كنفح النسيم، وعبير البنفسج، وشذى الذكريات، وتترك فى القلب ذوب العسل، تهب الذكرى كسرب فراش يحوم فى الغرفة حتى الصباح، ويملأ العتم بالياسمين، وطيب البخور، ونكهة قهوة، وهال ولوز وقرفة ومحلب وجوزة الطيب، وخبز محمص وكستناء، تقوم الفراشات كالأشرعة، كأيدٍ تلوح، كسرب حمام، ويهتز سمعى لصوت بعيد ينادى، يغنى «أمانة يا ليل»، وأضرع شوقًا: سامحنى بابا، سامحنى).
اعتداءات وحشية تجاوزت الدفاع عن النفس

وتكشف «زينب» تفاصيل مأساتها، ولماذا تطلب السماح من أبيها؟، لقد عاشت مراهقتها كصاحباتها فى مهجرها، وقبل أن تُتم سنيّ طفولتها، قبل أن تُتم الخامسة عشرة حملت، لم يكن هذا غريبًا على مجتمع الغربة لكنه كان كارثة وفعلاً مُحرمًا بحكم الدين والعادات والتقاليد العربية، لم تفهم «زينب» ذلك إلا بعد أن جرى خلفها أبوها بسكين وكاد يقتلها، فمنعته جدتها، «ديبورا» التى تعيش فى نيويورك، وقد لجأت إليها «زينب» لكن الأب جاء وفى يده سكينة.
وفى مشهد دام تصفه «زينب» فتعبِّر عن صدمتها ورعبها واضطرابها بين ما تربت عليه فى المهجر من أعراف وسلوكيات، وبين عقيدة أبيها، وأعراف مجتمعه العربى، وتبدو «زينب» ضحية هذا الصراع فتصفه فى مشهد مؤثر: (انتظرت نزول السكين، وفجأة سمعنا دويًا كانفجار القنبلة، اهتز المطبخ بأكمله، وبدأت المرطبانات تترنح مثل رقَّاص الساعة، أحسست بعضلاته تتيبس، ثم انهار على الأرض بطوله، تلاقت عيناى بعينيه للحظة فى نظرة مليئة بالاستغراب، والألم المُضنى والدهش، سمعت صوت حركة، فنظرت إلى الباب، وهناك كانت جدتى تقف، وفى يدها بندقية صيد، همست بصوت كالفحيح: «أى حركة ويكون رأسك شقف).
سحر خليفة

وطالبتها الجدة بالذهاب إلى غرفتها وطلب البوليس، لكن «زينب» لم تفعل فهى تحب أباها حبا جمًا، فتصف حيرتها ودهشتها فتقول: (كان الإحساس بالذنب والخزى والخوف والشفقة والضياع يجمد تفكيرى ويشل يدى).
تتساءل فى حيرة: (ما الذى فعلته؟ وماذا أفعل؟، وماذا بعد؟، أظلمت الدنيا فى عينى، وشعرت بسكون كالقبر).
واختفاء إلى الأبد
وتأتى صورة الأب الضائع والغائب لتحتل مشهد الفصل الأول فى الرواية لتجسد غربة زينب وأبيها كاملة، هذا الأب الذى ستعود إلى «وادى الريحان» لتراه بعد رحلة بحث عنه فى «بروكلين»، وفى المدن التى ارتحل إليها فى المهجر، فيبدو بحثها عنه محاولة لاستعادة الذات المفقودة، بأعرافها الأصيلة، ومعتقدها الطيب، ومنبتها الحسن المعطر برائحة وادى الريحان، وتظل الصورة المغتربة الضائعة للأب الغائب تمثل مشهدًا رئيسيًا مُعبرًا عن مأساة زينب واغترابها وعنف ما لاقته فى المهجر من صراع فكرى ونفسى فتقول: (عشت مع جدتى سنوات وسنوات، ونسيت أمى وابنى لكنى أبدًا لم أنس منظره وهو يقطع الممر: ذراعه مربوطة إلى عنقه وظهره محنى تحت وطأة عار تراكم منذ آلاف السنين».
«صحت بضمير مذبوح: سامحنى بابا، سامحنى، لوِّح بيده ثانية، واختفى فى الطريق إلى الأبد).
الميراث
وتعود «زينب» بعد أن يرسل لها عمها لكى تسافر إلى وادى الريحان، حيث عاد أبوها، يريد أن يموت فى بلاده، حملت حقيبتها وعادت، عادت إلى الذات التى ضاعت منها ذات غربة تقول: (لقد جئت هنا لأبعث حية، لتعود لقلبى خفقاته، هنا ألملم إحساسى، وأعود لأحيا دنياهم، هنا يحبون من الأعماق والقلب يقدم قربانًا على مذبح النكران).
يقول الراديو!
أولاد العم أبو جابر عادوا أيضًا من مهجرهم بعد «أوسلو»، «كمال» يقول: «الراديو يذكر أن السلام قادم فعلاً وحقًا، وأن المشاكل والإشكالات، ونقاط التفتيش والمستوطنات ما هى إلا خطوات ومراحل، وهذا يعنى أن الإنسان سيتنفس، ويعيش حياة معقولة، ويمارس هوايات مقبولة، ويقرأ ويناقش ويتأمل من غير عصا فوق رأسه، ويصبح إنسانًا، وابن آدم، إذن فلنحيا من غير قلق، من غير هموم أو أوجاع، صحيح أن الأوجاع ما زالت تنخر فى القلب وعظام «القدس»، لكنها محض مراحل ويعم السلام».
هكذا كان يقول الراديو لكن هل صدقه أهل «وادى الريحان»؟!
مهما طالت مدة التهجير.. لا بد من عودة

أحلام مجهضة
تحمس «كمال» للعودة من «فرانكفورت»، وخطط مشروعًا لإنشاء محطة تنقية وتطهير لمياه «وادى الريحان»، يستخدم علمه فى نهضة مدينته وتقدمها يصف غربته ويتذكر مقولة زميله «هايك» الألمانى بعد زيارته لسورية: (الناس هناك أحسن منا، إحنا بالغرب مجرد آلات، فقدنا القدرة على الأحلام والعواطف).
لكن مع الوقت يكتشف «كمال» أن أحلامه مجهضة، وأنه لن يستطيع أن يستكمل مشروعه، لقد استولى عليه «سعيد»، أخوه الذى لا يملك علمًا لإدارته، وتخطيطه، بل إن الاحتلال الصهيونى لن يمكنه من إتمام مشروعه، فهم يعرقلون كل خطوة، الجميع يدركون ذلك لكن الأمل يفتح بابه لا يزال أمامهم فتتساءل «فيوليت»:
(يعنى ممكن ها البلد تصير؟، أشاح البيك عبدالهادى بوجهه هربًا من سؤالها وما قد يثيره من شجون وهوان فماذا باليد؟!، هم يطبقون على الوادى، ويعتلون الجبال، ويتمترسون فى المرتفعات كما فعلوا بجبال القدس، القدس التى أحاطوها وخنقوها ثم ابتلعوها وانتهى الأمر، وجبال الضفة بلعوها، وسهول «غزة»، و«أريحا» هم ما زالوا فى كل مكان، ويتوسعون فى كل مكان، فأين السُلطة؟ أية سلطة؟!، أبدون السلطة يكون وطن؟).
تمرد
يحاول البيك استغلال «فيوليت» فعلاقتها بمازن حمدان معروفة ويقول لنفسه «مازن ليس أحسن من غيره»، يحاول إغواءها لكنها تتحداه وتكتشف أنه يحتقر المرأة والعلاقات الحلوة والحب والصدق، يتظاهر بأنه مثقف كبير قادم إلى «وادى الريحان» ليخطط لبرامج ثقافية ولحفل افتتاح محطة تنقية المياه «فيوليت» تثور على البيك، وعلى مازن نفسه وكلماته الحلوة، هى لا تأبه بها الآن، ستبيع محل الكوافير الذى تملكه والدار وتهاجر إلى «فلوريدا»، هى تريد أن تتزوج وتنجب ويكون لها بيت جميل بحديقة وكراج بريموت كنترول مثل «جريس»، ينصحها «مازن» بالبقاء يقول لها (شوفى «زينب»، كل شىء عندها، لكن اكتشفت أنها بلا ناس، ومن غير ناس ايش ما نسوى؟
هزت «فيوليت» رأسها بمرارة ولم تجادله، ولم تقل له: أنت من الناس، والبيك ناس، وبنت أبو سالم ذات اللسان والفضائح هى أيضًا ناس هنا الإنسان لا يتنفس، هنا الإنسان يختنق، ويموت بفضل الناس، ألا يكفينا هم اليهود؟ وفوقهم الناس؟!).
مشروع حضارى
«كمال» يشعر بالحزن فى أعماقه، عوامل كثيرة أجهضت مشروعه (محطة تنقية المياه العادمة ونضح البلد)، زار من قبل عدة محطات فى عدة ولايات وأوروبا، وكانت فعلاً شيئًا رائعًا، حدائق عامة، مصانع، أسمدة، وتكرير مياه، أما هنا فما هذا القبح؟ ما هذا المشهد وهذه الكارثة؟، انقسم الجميع إلى فئتين بل ثلاث، فئة تقول إن المشروع صار لعنة ومكرهة بيئية ومصيبة، والفئة الثانية تقول إن المشروع إنجاز عظيم لأنه يحمى البيئة وينقيها، ويزودها بالماء، والأسمدة والفئة الثالثة تجد أن المشروع نعمة قصوى إذا ما نظر إلى الموضوع بمنظار المعرفة والتاريخ، وهذه الفئة يمثلها «مازن حمدان جيفارا» فهو بمعرفته للشارع، وطبيعة الجو، والحركة، ثم حياته فى (تونس) ثم (موسكو) ثم هنا فى (وادى الريحان) يعرف نفسه، ويعرف غيره، ويعرف ما كان، وما يمكن وهو يعلم وهو موقن أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، اختلال الوضع السياسى والاقتصادى والاجتماعى أدى إلى اختلال الوظائف، والمسئولين، والنتائج، أى أن الوضع برمته غير صحى، فكيف إذن يطلب منهم تنفيذ مشروع حضارى، والبيئة فقيرة ومحرومة من أسس التقدم والتطوير؟.
اكتشاف تراث
مع عودة الأبناء من مهجرهم، بدأوا يكتشفون المكان كجزء أصيل من تكوينهم، وحياتهم، يتساءلون كيف غاب عن البال؟
إن هناك بوادى الريحان صرحا أثريا كالبتراء والأهرام، وما انتبه أحد فى الماضى أو فى الحاضر إلى استغلال هذا الصرح، أتعرف ما يعنى هذا الصرح؟، «القلعة» تعنى سياحا، تعنى فنادق، تعنى مطاعم، تعنى ملاهى، تعنى الدراهم، كيف غاب عنا أنّا نقعد على بئر نفط ومصارى، رصيد عظيم، كيف تظاهرنا أمام المشروع والبلدية من أجل روائح عابرة، وبضعة فئران؟.
إرهاب وفوضى
ينوء أبطال الرواية بما يحملون من أثقال معنوية ومادية، «فيوليت» أحبت «مازن حمدان» فلم يقدر حبها، وطمع فيها «البيك عبدالهادى» الذى حاول أن ينسى لديها أحزانه ومخاوفه واهتزاز نفسه، «ونهلة» التى أضاعت حياتها فى الغربة، عملت فى الكويت، وعادت بعد الحرب تغدق على إخوتها دائما وتعيش فى النهاية وحدها بلا زوج، وبلا ابن، بينما يعيشون جميعا فى مهجرهم، فتضطر للزواج من «أبوسالم» السمسار الذى تركها وهرب إلى الغرب، خائفاً أن يقتله أبناؤه بعد أن كتب لها أسهم شركة تنقية المياه، ظن أبناؤه أنه كتب لها أرضه وماله كله فاستعانوا بجماعة «إرهابية» اسمها (النمر الأسود) فحبسوها، وحاولوا إجبارها على توقيع تنازل عن كل حقوقها فى الأرض وأسهم الشركة، ويجسد ذلك ما يحفل به المكان من فوضى، وعنف، فلا قانون يحكم المدينة، الاحتلال يمسك بمقاليد الأمور ويعرقل كل خطوة للتطوير والجماعات الإرهابية تمارس سطوتها فى ترهيب الناس، لكن هذه المثالب نفسها، والصعوبات القاسية توحد الإخوة، وتجعلهم يتجمعون لنصرة «نهلة»، ويحاولون تحريرها من خاطفيها، يأتى «سعيد» ولم يزل جرحه طريا، وموضوع الرصاصة التى أطلقتها عليه ما زال ينبض بالألم فلقد تعاركا بسبب زواجها من «أبى سالم» دون مشورة إخوتها، لكن «سعيد» جاء ليحررها، وجاء «كمال» و«مازن»، اجتمع الكل لتحريرها من خاطفيها، وهى ترفض أى تنازل عن حقوقها بينما تذهب جماعة النساء: «زينب» و«فيوليت»، و«أميرة» وابنتها «فتنة» إلى «أم سالم» لإقناعها بالإفراج عن نهلة وتحريرها من جماعة (النمر الأسود) مقابل التنازل عن كل ما كتبه له «سالم»، وهرب، ينجحون فى تحريرها، وتفشل شروطهم فى تطليقها، لا يملك ذلك أولاد «سالم» وهى نفسها لا تريد، ترزح تحت مخاوفها كأنثى من الوحدة، وتركهم لها، تفزع من فكرة سفرهم إلى مهاجرهم وبقائها وحيدة، ترفض فكرة «كمال»: أن تسافر معه إلى «فرانكفورت» تهتف به: «هون حياتى، هاى حياتى، وما إليّ غيرها، أبوسالم لولا الأوضاع ما بيتركنى، شو يستنى ليقتلوه؟، هيك الدنيا، وهيك أولاده».
سطوة التقاليد
وتتبدى قوة الأعراف الاجتماعية وقسوتها فى بعض الأحيان، الأعراف التى لايفهمها «كمال» الذى تثقف، وعاش حريات وأعرافاً أخرى فى المهجر، ويكشف الحوار بينهما عن العوامل الاجتماعية التى تغير سلوك الأفراد ومصائرهم، وقوعهم تحت قهر الظروف والأعراف فتقول نهلة لكمال:
إيش راح يقول الناس عنى؟، بدك يقولوا تجوزته عشان الورثة، أو بدك يقولوا تجوزته عشان تذوقه؟، فيقول أخوها (إيش دخل الناس إن كان ذقتيه أو ما ذقتيه»؟!).
الدنيا التزام
ويبقى موقف «سعيد» من تحرير «نهلة» ماثلا فى ذهن «كمال»، «سعيد» يجازف بحياته، وأمانه من أجل أخت ضائعة، ما زال جرح رصاصتها بأعلى صدره، من منهم هناك فى مهجره يفعل ذلك؟!
هناك الإنسان بمفرده جزيرة معزولة، ومنسية، عدا الزوجة والأولاد، لا أحد لك إلا نفسك، إلا قرشك، إلا عملك، فإن توانيت ولو لحظة قتلتك العجلة والدولاب، أنت هناك مثل الدابة مربوط إلى حرف الدولاب، وتظل تدور، ممنوع أن تمرض، أو تتعب، وممنوع أن تزهق أو ترتاح، ممنوع أن تخطئ أو تستسلم لمزاجك، ممنوع الجنان والعواطف.
يهمس «كمال» لنفسه: (هذا ما جئت من أجله إلى «وادى الريحان»، الروح الإنسانى)،.. الناس هنا لهم أحلام وروائح لكن ما قابله من صعوبات يدعوه للسفر من جديد، بينما الأب «أبوجابر» غاضب من أولاده، يريد أن يبقوا، لكن «كمال» لا يريد أن يعمل فى جو الرعب والخطف والعنف وعدم الأمان، يسأله أبوه أن يبقى، ويهتف به مازن:
إيش يعنى الهزيمة كمان مرة، حالنا تعودنا الهزائم لكن الشطارة أن نقوم بعد النكسة، وهاينا رح نقوم، بكرة راح نقوم، ونصير عالم، المسألة تطبيق ومش بس كلام وحكى فاضى الدنيا التزام».
يؤجل «كمال» سفره ليحضر افتتاح المشروع والاحتفالات، يرى أن نجاح الحفل يعنى استمرار الثقافة فى (القلعة) واجتذاب الفكر، إلى وادى الريحان، واجتذاب السياحة والحداثة، وأسس التطوير فإن لم يفلح مشروع النضج فى لم الزبالة وتكرير المياه، وتحسين البيئة والأجواء فربما أفلح هو فى نشر النور من القلعة، صحيح أن الثقافة ليست بديلا عن الشارع والبلاغة ليست بديلاً عن خبز الأطفال إلا أن الثقافة غذاء الروح، ولا تسمو شعوب الأرض إلا بالفكر والثقافة.
القلعة
بدأت مراسم الاحتفال، الكشافة أحضروا طبولا وأبواقاً، اندفعت روح جديدة فى نفوس الناس، (جاءوا ليستمعوا إلى لحن بليغ عن القلعة ذات الهيبة والعزة والتاريخ، مشوا كصف العسكر، وهم يعزفون على الآلات، مما شجع أولاد الحارات فلحقوا بهم، وكل بيده طبلة أو علبة سمن ينقر عليها ما لذ وطاب، امتدت طوابير المدعوين إلى مشارف نابلس، بينما انتشرت نقاط التفتيش من جانب العرب وجانب اليهود، لم يكن المرور سهلا، وفجأة دبت الفوضى، واشتغل الضرب، وفقد أحد الأطفال عينه فى الزحام ولم يستمع له أحد!).
ولم تكن هذه الحادثة المأساوية التى حدثت للطفل هى الوحيدة بل تأتى خاتمة الرواية لتصف مشهدا مرعبا فقدت على إثره «نهلة» حياتها، تقول الساردة:
حاولنا التوسط لتسهيل المرور فسيارة الإسعاف تحمل (نهلة) التى تنزف بعد أن وضعت طفلها، قال المحافظ: ليس بيدي!، وقال رئيس البلدية:
أنا مسئول عن المجارى لا عن السير!، أما المخاتير من كبار المسئولين فقد مروا بسلام وجلسوا فى الصفوف الأمامية!، وصار «مازن» يقطع طول الطريق بالحديث مع المحافظ الذى صار يقول: «المشكلة بشعبنا إنه لا يتريث، بدهم الحل ييجى بصاروخ، وبدهم الحل ييجى ببلاش، معقول فيه شيء يجى ببلاش، شوف الألمان، شوف اليابان، أو بلاش يا سيدى شوف الصين».
فيقول مازن: شوف مانديلا.
لم يسمعه المحافظ واستطرد فى حديثه بينما (نهلة) تشكو لأمها ما تشعر به من وهن فتنصحها بألا تنام أو تفقد الوعى، ثم انفجرت الأم فى وجه المحافظ:
مش معقول أنا نصبر أكثر من هيك، بنتى تصفى دمها، وقربت تموت، وأنا قاعدة اتفرج عليها».
ولما لم تصل معه إلى حل، فأمرت «مازن» بحزم أن يفتح باب السيارة لتنزل هى، وتتحدث إلى الصهاينة فقال لها:
يا ست «أميرة» هدول اليهود ما بيعرفوا حد، ولا بيسمعوا حد، ولابيحترموا حد، إنت نسيت؟
فقالت له: لأ ما نسيتش، وبرضه ما نسيت إنى أميرة بنت الشايب اللى كان أبوها مع الثوار ضد الإنجليز، وجدها كان حامى الأقصى، جاى تخوفنى بشوية جنود ملمومين لهم من الشوارع فى بلاد الناس؟، أنا مش ممكن أقعد ساكتة وبنتى بتموت قدام عينى، يا الله افتح، بقول لك افتح.
وعندما هجم «مازن» على مؤخرة السيارة وفتح، لكن (فتنة) أثناء النقاش قد ارتحلت إلى بارئها، بينما هجم جنديان على «مازن» وسيارة الإسعاف، وهما يصوبان السلاح ويصيحان: «وقف، وقف» وضربه أحدهما بخشبة الرشاش فسقط على الأرض، وهجم الآخر، ثم الاثنان يصيحان بوحشية «وقف، وقف» فأفاق الطفل وأطلق صرخة.
ويستدعى مشهد سيارة الإسعاف فى رواية «سحر خليفة»، السيارة التى قضى فى خزانتها ثلاثة شبان فلسطينيين أرادوا الهرب إلى الخليج فقضوا اختناقا فى الطريق فى رواية «رجال فى الشمس» لغسان كنفانى، لتظل أسباب هربهم، وتاجر تهريبهم إدانة للمحتل الإسرائيلى، وكذلك تظل سيارة الإسعاف ومصير «فتنة» ، وانعدام سلطة المحافظ أمام جنود الاحتلال بحيث لا يستطيع حتى المحافظ أن يسهل مرور سيارة إسعاف!، إشارات دالة على بشاعة الاحتلال الإسرائيلى، وما تعانيه البلاد وأهلها بعد أوسلو، وقبلها من ويلات وموت ودمار.
ولكن يبقى «وادى الريحان» أنشودة، تذكر بقرى ومدن البلاد، سحبة موال، أغنيات من القلب مضمخة بذوب عسل وعطر ياسمين، وتراث أمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.