مُؤخَّرًا أبدَى البعضُ انزعاجًا من هجرة الأطباء الشبان إلى بريطانيا بأعداد كبيرة وأن مصر ارتفعت إلى المركز الثالث بين الدول المصدرة للأطباء إلى بريطانيا. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الأطباء المصريين فى بريطانيا تجاوز «ثمانية آلاف» طبيب، وفى كندا «اثنا عشر ألفًا» وفى الولاياتالمتحدة نحو «عشرين ألفًا»، أمّا فى دول الخليج فيقارب «الستين ألف» طبيب. انزعاج آخر أبداه البعضُ «حتى من أساتذة الجامعات» من أن عدد الطلاب الوافدين لدراسة الطب فى مصر اقترب من العشرين ألف طبيب (ما بين طلبة البكالوريوس، وطلبة الدراسات العليا) من دول الخليج العربى، وسوريا، والأردن، واليمن، وفلسطين، انتهاءً بماليزيا. وأنا أسمح لنفسى بالاختلاف مع تلك الآراء الرافضة أو المنزعجة من هاتين الظاهرتين. ذلك أن «قوة مصر الناعمة» التى طالما تمثَّلت فى الإبداع الأدبى، والفنى، قد أصابها الضمور والتقلص فى ظل حالة الفقر الإبداعى التى يعانيها الوسط الثقافى والمتوازية مع تراجع اهتمام العامة بالثقافة والفن الراقى، ويضاف إليها محاولة احتكار مواهب الغناء المصرى الأصيل من قِِبََل شركات ورؤوس أموال عربية، تقوم بدفن تلك المواهب. لكن مصر الوَلُود لا تعقم أبدًا أن تلد لنا قوة ناعمة جديدة مصرية، تتمثل فى أطبائنا الشبان، إذ لدينا فى مصر الآن خَمس وعشرون كلية طب بشرى حكومية (بمعدل كلية طب فى كل محافظة تقريبًا)، وكذلك إحدَى عشرة كلية طب خاصة وأهلية، وإذا كان عدد خريجى كليات الطب حاليًا يتجاوز(التسعة آلاف) طبيب؛ فإنه فى السنوات القليلة القادمة سوف يتضاعف هذا العدد؛ إذ أنَّ كثيرًا من كليات الطب الستة والثلاثين هى حديثة الإنشاء ولم يتخرج طلابُها بعد. وأقول للمنزعجين من هجرة الأطباء: لا تنزعجوا.. نحن بالحقيقة نُنتج، ونُصَدّر مُنتَجًا ذا جودة عالية، مما لا تستطيع دولٌ أكبر وأغنى منّا أن تفعله، نحن لا نُصَدّر سلعة صمّاء من الجمادات التى لا تعرف لها أصلًا ولا انتماءً؛ بل نحن نتمدَّد، ونتوَسَّع، ونخترق مجتمعات، ودولًا، وأنظمةً صحيةً، ونمُدُّ أذرعًا، ونُرَسّخ أقدامًا فيها، لا تنفكُّ، ولا تنفصل عن مصر وجدانيًا وثقافيًا؛ بل وماديًا (ثلاثون مليارًا من الدولارات هى تحويلات المصريين العاملين بالخارج). كنا دائمًا ما نشكو من افتقادنا إلى (لوبى) عربى - يوازى ويوازن تأثير اللوبى اليهودى فى الإدارة الأمريكية- لوبى عربى كنا نطمح أن تشكّله أموال النفط، لكننا لم نفعل، وها نحن نرَى الآن رئيس وزراء، ووزير خارجية بريطانيا، ورئيس وزراء اسكتلندا كذلك، من أصول هندية. هذا بعينه لوبى من نوع آخر «المهنيين أو التكنوقراط» اخترق معقل السياسة والحُكم فى بريطانيا، قد يستطيع من أولادنا من يلحق به، إن نحن أحسنَّا الارتباط بهم فى المهجر، لعلنا نستدرك ما فات، وما لم يحققه العرب بأموالهم. اتركوا أولادنا من الأطباء، ليرتحلوا، وينتشروا، ويستقروا، ويزدادوا علمًا، ومهارة، ولنُنتج نحن المزيد، فهُم على أقل تقدير شهادات اعتماد بجودة التعليم الطبى فى مصر وكفاءته. لكن اشملوهم بالرعاية، ولا تقطعوا الحبل الذى يربطهم بالوطن.