حملت الثمانينيات عدة تناقضات، تتراوح بين خمول الفكر لدى النخبة، بغير إرادة للتغيير، وبين الدفاع عن الهوية كما يراها الرواد والتابعون لهم، وبين الكفر بالانتماء والهروب للأمام لدى المؤمنين «بالقرية الكونية»، وبين الركل لكل ما هو قديم لدى الشباب!.. وهى متناقضات طبيعية بالنسبة لفترة تتسم بالبلادة والجمود السياسى باسم الاستقرار، وهو فى الحقيقة استقرار التدجين للمثقفين، كما يرمز إليه الإعلان الشهير (انسف حمامك القديم)، تعبيرًا عن الرغبة فى التخلى عن القيم الراسخة والمتوارثة، فغابت الأصالة وتراجعت المبادئ وانطفأ وهج الإبداع، وبات بعض المستفيدين من النظام قادة بلا ميادين، وأصبح شباب الفنانين ثوارًا بلا قضية! ووصلت المتناقضات لحركة الفنون التشكيلية إلى حد المفارقة؛ حيث تضاعفت بدرجة مفرطة أعداد ممارسى الفن خلال الثمانينيات؛ نتيجة لضخ مئات الخريجين من كليات الفنون فى جسمها كل عام مع تزايُد عددها، ومعاناة أغلبهم من ضحالة ثقافية ملحوظة ومن عدم القدرة على التحصيل أوالتميز؛ لأنهم دخلوا هذه الكليات وفقًا لمجموع الدرجات لا لامتلاك الموهبة، ما أدى إلى ترهل هذا الجسم. وفى المقابل؛ انكمش الجمهور المتابع لهذه الحركة إلى حد الندرة؛ لتمركز قاعات المعارض فى حى واحد بالقاهرة هو حى الجزيرة وضاحيته بالزمالك، وأغلبها يبقى بغير جمهور إلّا فيما ندر، مع عدم وجود أى قاعات فنية بالمعنى الصحيح خارج القاهرة. وتلك نتيجة طبيعية لنظام تعليمى طرد من مناهجه أى مواد للتربية الفنية والثقافة الجمالية، ولنظام إعلامى وصحافى لا يعترف أصلا بهذه المواد، ما جعل من الفن نشاطا زائدًا عن حاجة المجتمع أو نخبويّا بامتياز ولا يهم إلا أصحابه؛ لأن السياسة الثقافية للدولة لم تعتبر الفن وتنمية المتاحف الفنية، بل الثقافة عامة، ضرورة فى خططها؛ لأنها لم تكن معنية ببناء الإنسان أساسًا، فسقطت الثقافة خارج دائرة اهتمامها، بالإضافة إلى وقوع الإدارات المختصة بهذه الأنشطة فى قبضة قيادات بيروقراطية وانتهازية كان بعضها بعيدًا تمامًا عن تخصص منصبه، إنما قَبِل التعيين فيه كمحطة مؤقتة انتظارًا للترقى الى منصب أعلى، ومن ثم لا يعنيه إحداث أى تغيير، ويرى من الأفضل بقاء الحال على ما هو عليه. وعلى المستوى الإبداعى، مرت الفنون التشكيلية بمصر خلال ذلك العَقد بثلاث دوائر متباينة المرامى والنتائج، وإن تفاعلت وتداخلت بوشائج تحت السطح وعبر المسار، فلا تبدو بينها حدود قاطعة، بل كان ثمة تبادُل للتأثير والتأثر فيما بينها، تبعًا لمتغيرات الخريطة الطبقية والثقافية وللمواءمات السياسية آنذاك، ولتأثير الاقتصاد الحُر ومن ورائه العولمة التى تهب رياحها من الغرب على سطح الظواهر... وفى هذا المقال نحاول تشريح وتفكيك المكونات المتداخلة لتلك الظواهر. الهروب إلى التراث والبيئة أولى هذه الدوائر يمكن تسميتها(الدائرة القومية)، وأعتبرها ميراثا لمرحلتَى الستينيات والسبعينيات واستمرت بقوة القصور الذاتى إلى الثمانينيات، بقيادة رموزها الكبار المتبقين، مُعبرين عن روح الهوية المصرية، فى تحدٍّ للمتغيرات التى فجرتها سياسة الانفتاح الاقتصادى وغزو التطرف الدينى وانهيار حلم القومية العربية تحت زلزال اتفاقية كامب ديفيد. مارَسَ هؤلاء الكبار إبداعهم الجديد باستلهام جماليات البيئة والتراث الحضارى المصرى، أو بالتحليق فى فضاءات الحلم، أو باستيحاء ملامح الفطرة الشعبية وموتيفاتها التراثية، كنوع من الدفاع الذاتى فى مواجهة غزو العولمة والجائحة الاستهلاكية، متفاعلين فى الوقت ذاته مع اتجاهات الفن العالمى الحديث بقدر متفاوت من التأثر. بعض هؤلاء كان من فرسان الجماعات الثورية فى الأربعينيات أمثال: حامد ندا، حامد عويس، جاذبية سرى، زينب عبدالحميد، بجانب آخرين لم ينضموا إلى الجماعات الفنية القديمة لكنهم عايشوا عصرها الذهبى ثم أضافوا إليها من عبقرياتهم ، وامتد عطاؤهم أيضًا إلى الثمانينيات من أمثال المصورين: حامد عبدالله، عفت ناجى، تحية حليم، إنجى أفلاطون، صلاح طاهر، حسين بيكار، راتب صديق. ومن النحاتين: محمود موسى، محمد هجرس، كامل جاويش، أمين عاصم، حسن صادق، صلاح عبدالكريم، آدم حنين، أحمد عبدالوهاب(على اختلاف توجهاتهم الفنية وتحولاتهم اللاحقة).. وقد ظل لواء الحداثة والأصالة معًا معقودًا لهم خلال تلك الفترة من الثمانينيات، كرجع صدى لإبداعهم الثورى حتى من قبل ثورة 52م وما بعدها، بمشاركتهم بفنهم فى قضاياها الوطنية وتعبيرهم عن مشروعاتها ومبادئها، متخذين من اتجاهات الفن الحديث فى الغرب أساليب فنية بمذاق مصرى. قضايا إنسانية بأساليب عصرية وقد لحق بهم وتماهَى معهم فى الدائرة القومية نفسها - زمنيّا وإبداعيّا - فصيل أكثر تنوعًا فى اجتهاداته الفنية، تألق بعضهم منذ الخمسينيات وظهر بعضهم الآخر فى الستينيات والسبعينيات واستمر عطاؤهم فى الثمانينيات ربما بمذاق مختلف، فأعطوا مزيدًا من الزخم الإبداعى لتأسيس مَدرسة مصرية جديدة متحررة من التعبير المباشر، وعازفة، فى الوقت نفسه، عن التبعية المطلقة للفن الغربى ، وتعددت نزعاتها الفنية؛ بين استلهام الفن المصرى القديم وخصائص البيئة، وبين التعبير عن قضايا إنسانية بأساليب عصرية تنتمى لمدارس شتى، بدءًا من الواقعية التى ترصد ملامح البيئة والحياة الشعبية، حتى مَدرستَىْ التعبيرية والوحشية، وما بينهما من ألوان قوس قزح للمدارس الفنية الحديثة، على خلفية عريضة من اللهجات الأسلوبية المتفردة. يمثل هؤلاء من المصورين: محمود عفيفى، حسن سليمان، سيد عبد الرسول،غالب خاطر، عبدالغنى أبو العينين، عمر النجدى، فاطمة عرارجى، مريم عبدالعليم، زينب السجينى، ممدوح عمار، على دسوقى، إيهاب شاكر، بخيت فراج، زكريا الزينى، إسماعيل طه، فاروق شحاتة، سعيد حداية، جورج البهجورى، عبدالرحمن النشار، شاكر المعداوى، محمود بقشيش، فتحى أحمد، وفيق المنذر، أحمد شيحا، عبدالمنعم مطاوع، عصمت داوستاشى، نبيل وهبة، مصطفى الرزاز، فرغلى عبد الحفيظ، حمدى عبدالله، فاروق وهبة، حلمى التونى، نازلى مدكور، محمود إبراهيم، مصطفى مشعل، صلاح عنانى، سغد زغلول، محمد عبلة، فتحى عفيفى، شوقى زغلول. ومن النحاتين: عايدة عبدالكريم، عبدالهادى الوشاحى، فاروق إبراهيم، محمد مصطفى، عبدالحميد الدواخلى، صبرى ناشد، حمدى جبر، الغول أحمد، عبدالمجيد الفقى، أحمد جاد، محفوظ صليب، محمد العلاوى، محمد عبدالحميد، محمد جاهين، على حبيش، محمد عثمان، السيد عبده سليم، محمد رزق. ومن الخزافين: نبيل درويش، محمد مندور، جمال عبود، سمير الجندى، سلوى رشدى... وفى النحت الخزفى: زينات عبدالجواد، زينب سالم، حسن عثمان، مرفت السويفى، محمد الفيومى. الخط العربى والأرابيسك وتزامَن مع هؤلاء فى الدائرة نفسها اتجاه(الحروفيين) الذين استخدموا حروف الخط العربى، واتجاهٌ آخر ممن استخدموا الموتيفات الزخرفية المجردة(الأرابيسك) أو الموضوعات ذات الطابع الفطرى والشعبى لبناء رُؤَى جمالية تعايش ذوق العصر، وتتراوح بين التجريد والتشخيص، وبين التعبير الزخرفى والإثنولوجى. وكان لهذين الاتجاهين امتدادٌ فى كثير من الدول العربية، لقيا رواجًا بين المقتنيين فى زمن الانفتاح الاقتصادى وواكبا المَد السلفى من ناحية، والحاجة إلى الزينة لدى محدثى الثروة النفطية من ناحية أخرى، حتى ولو لم يكن مبدعو تلك الأعمال يهدفون إلى ذلك، ومن نجوم هذين الاتجاهين؛ الفنانون: خميس شحاتة، أحمد مصطفى، يوسف سيده، عمر النجدى، طه حسين، صالح رضا، كمال السراج، حسنين على، عبدالوهاب مرسى، سعد كامل، مصطفى عبدالمعطى، حسين الجبالى، سامى رافع، على دسوقى، مكرم حنين، حسن غنيم، فتحى جودة، عبدالمنعم معوض، كمال يكنور، عطية مصطفى، محمود عبدالعاطى، عوض الشيمى، مجدى عبدالعزيز، سهير عثمان... وفى النحت الخزفى: محمد الشعراوى، حسن عبدالحميد. حداثة الشكل والخامة الدائرة الثانية- أواسط الثمانينيات- كانت من شقين متوازيين، ميزت بينهما فوارق فكرية وتشكيلية كبيرة؛ الشق الأول أسميه(الشكلانيين)، وهو يتجرد من السمات التراثية والقومية، ومن المضامين الاجتماعية أو الفلسفية، ويسعى لتحقيق الحداثة الشكلية بالتركيز على تقنيات التشكيل والخامة، وينتمى أصحابه إلى أجيال مختلفة يصب إنتاجها فى عَقد الثمانينيات، ورُغم أنه كان موجودًا منذ الخمسينيات فقد انتعش فى الثمانينيات مع تصاعُد حلم العالمية فى الفن والأدب واجتياح العولمة فى الاقتصاد والسياسة. وتتراوح أعمال أصحاب هذا الاتجاه بين التجريدية البحتة والتجريدية التشخيصية والتجريدية التعبيرية والتجريب الشكلانى، ومع ذلك لم يخلُ القليل من أعمال هذا الاتجاه من بعض المشخصات أو الرؤى الرمزية أو من الاستلهام من عناصر زخرفية محلية، دون أن يتخلى أصحابها عن قناعتهم الأساسية بابتعاد الفن عن أى أهداف أخرى غير ذاته. ومن قادته فى الثمانينيات؛ المصورون: منير كنعان، محمود البسيونى، أبو خليل لطفى، أحمد فؤاد سليم، عبدالرحمن النشار، فاروق حسنى، حامد الشيخ، نعيمة الشيشينى، عدلى رزق الله، عبدالسلام عيد، محمد رزق، مصطفى عبدالوهاب، عطية حسين، محسن عطية، محمد رضوان حجازى، رضا عبدالسلام، عبدالوهاب عبدالمحسن، أحمد الصعيدى. ومن النحاتين: صبحى جرجس، جابر حجازى، أحمد السطوحى، طارق زبادى، أحمد عبدالعزيز، عونى هيكل... ومن الجرافيكيين: محمود عبد الله، حسن الأعصر، صبرى حجازى. الفن التجميعي الشق الثانى يُعَد من بواكير اتجاه(العمل الفنى المُرَكب)، وهو يقتفى أساليب «الفن المفاهيمى» أو «فن التصميم» أو حتى أساليب المَدرسة «الدادية» ، متجاوزًا مفهوم لوحة الجدار، نحو مفهوم العمل المؤلف من مجسمات وخامات متنافرة يتم تجميعها فى الفراغ، وهو ما يجعل أحد مصطلحاته هو «الفن التجميعى»، وكان من رُوّاده الفنانون عبدالسلام عيد، عصمت داوستاشى، رمزى مصطفى ، وتبعهم أعضاء جماعة «المحور» المؤلفة من الفنانين أحمد نوار (وكان قد سبقها بتجربة استخدم فيها شظايا المدافع بحرب الاستنزاف التى شارك فيها كمقاتل؛ لتشكيل مجسمات نحتية تذكرنا ببطولات المعارك)، وكان شريكاه فى جماعة المحور: عبدالرحمن النشار وفرغلى عبدالحفيظ، وربما لم يدركوا ان اسم «المحور» الذى اتخذوه عنوانًا لجماعتهم هو شعار جبهة النازية فى الحرب العالمية الثانية، ما يدل على غياب الوعى السياسى لدى الفنانين آنذاك! .. وسنرى كيف سيكون لهذا الاتجاه (العمل الفنى المركب) موقع الصدارة فى صالون الشباب قرب نهاية ذلك العقد. غير أن كثيرين من أصحاب هذه الاتجاهات جميعًا تنقلوا بين أساليب مختلفة، ما بين أواخر السبعينيات وأواخر الثمانينيات، مع احتفاظ كل منهم ببصمته الخاصة، وجدير بالذكر أيضًا أنهم ساعدوا بقوة فى خَلق حركات فنية بهذه الاتجاهات نفسها فى كثير من الدول العربية؛ خصوصًا دول الخليج وقت زحف المصريين للعمل بها منذ أواسط السبعينيات.