نشرت مجلة صباح الخير، فى عددها الصادر 26 سبتمبر 2017، حوارًا بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» والكاتبة الفرنسية «سيمون دى بوفوار» يعود إلى مارس 1967 حول «قضايا المرأة ومشكلة الزيادة السكانية فى مصر». قال عبدالناصر: «بالنسبة للزيادة فى عدد السكان، أعرف أنها مشكلة، فهناك زيادة سنوية فى عدد السكان تقدر ب 800 ألف نسمة، وفى أول الثورة كان تعدادنا 22 مليونًا واليوم نحن 31 مليونًا». وتدخل «سارتر»: «لابد من حل على مستوى الدولة». فرد عبد الناصر: «نستطيع أن نقوم بحملات دعائية، ونحن أقمنا لجانًا لتنظيم الأسرة فى كل المدن والقرى، لكن فى رأيى أن الحل الحقيقى فى زيادة الإنتاج والتصنيع. والتعليم فى رأيى هو أهم عنصر، لأنه يبدو صلى من الإحصاءات أن أبناء المتعلمين أقل من أبناء غير المتعلمين». محتوى رد الرئيس عبد الناصر منذ ما يقرب من 50 عامًا، هو تقريبًا نفس محتوى الحوار الذى يدور اليوم حول علاج الزيادة السكانية فى مصر، وهل الحل هو زيادة الحملات الإعلامية والخطاب الدينى المستنير وبرامج تنظيم الأسرة، من أجل حث الأسرة المصرية على استخدام وسائل تنظيم الأسرة وإنجاب طفلين فقط، أم الحل هو التنمية الاقتصادية والمجتمعية؛ من خلال التوسع فى التصنيع وزيادة معدلات تعليم وعمل المرأة وحل مشاكل البطالة، وهو ما يجعل الأسرة تقلل عدد الأطفال تلقائيًا وبشكل طبيعى.. كما انتشرت فى الفترة الأخيرة، أيضًا، مقترحات قانونية تتعلق بحرمان الطفل الثالث فى الأسرة من مجانية الخدمات التعليمية والصحية ودعم المواد التموينية. ولا ينتبه من يتبنى هذه المقترحات بأنها ضد الحقوق الأساسية للطفل وضد الدستور والقانون، وأنها تشكل عقوبات للطفل وليست للأسرة، وذلك لأن حظه التعيس جعله الطفل الثالث فى أسرة فقيرة!.. أما اليوم، فقد بلغ عدد المصريين حوالى 100مليون مواطن، أى أننا زدنا حوالى 80 مليون نسمة فى خلال 68 سنة فقط من (1952-2020)، وفى الأعوام الأخيرة منذ عام 2014، نزيد كل عام حوالى 2.6 مليون مواطن، مقارنة بزيادة 1.9 مليون مواطن فى عام 2010. كل هذه الزيادة السنوية تتطلب من القيادة السياسية والحكومة قدرة فائقة على توفير احتياجاتها من السكن والبنية الأساسية والكهرباء وفرص العمل والمدارس والمستشفيات، كما أنها تضغط على الموارد الطبيعية للدولة وخاصة من الأرض والمياه والطاقة.
السلوك الإنجابى للأسرة المصرية
يقول الراحل د.رمزى زكى المفكر الاقتصادى البارز من خلال دراسته الشهيرة «المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة»: أن السلوك الإنجابى للبشر صعب ومعقد، فهو ليس سلوكًا غريزيًا بسيطًا، وإنه يتوقف على مجموعة كبيرة من العوامل: مثل مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى والعادات والتقاليد والقيم المجتمعية السائدة. كل هذه العوامل تتفاعل معًا لتشكيل السلوك الإنجابى للأسرة. فإذا نظرنا إلى مجتمعنا، سنجد حوالى ثلثى سكان مصر يعيشون فى ريف الصعيد والوجه البحرى، ولايزال الريف بشكل عام، وريف الوجه القبلى بشكل خاص، هوالمُنتج الأساسى للأطفال.. فمعدل الإنجاب الكلى للسيدة فى ريف الوجه القبلى هو الأعلى على مستوى الجمهورية، حيث يصل إلى 4.1 طفل مقارنة بالحضر 2.8 (بحسب إحصائيات وزارة الصحة والسكان). وتفسير الفرق بين سلوك الأسرة الريفية والحضرية واضح.. الأسرة الريفية لديها حاجات اقتصادية واجتماعية لإنجاب مزيد من الأطفال، فأطفالها يعملون فى الزارعة ومجالات الإنتاج البدائية الأخرى التى لا تعتمد على التعليم والتدريب المتطور، لذلك فهم ثروة وسند الأسرة وخاصة فى حالات العجز والشيخوخة، أما الأسرة الحضرية والتى تعمل فى الصناعة والمجالات المهنية والخدمية المختلفة، فإنها تتكفل بالإنفاق على أولادها فى التعليم والتدريب لإكسابهم مهارات الالتحاق بسوق العمل فى مرحلة الشباب، لذلك تميل إلى تخفيض عدد الأطفال.
التنمية والحداثة هى الحل
تؤكد كل الخبرات المصرية والدولية فى علاج القضية السكانية فى مصر أن الحل لا يمكن أن يكون جزئيًا؛ مثل حملات إعلامية أو تنظيم أسرة أو تعليم وتصنيع أو تعليم بنات فقط. وأن الرؤية الشاملة والتى تضم عناصر متكاملة هى الأساس وعنوانها: «التنمية والحداثة»، وتشمل ما يلى: - تحديث الاقتصاد الإنتاجى الذى يعتمد على التصنيع، ويعتمد على العلم والتكنولوجيا، لأنه يعتمد على عمالة الشباب المتعلم والمدرب وليس عمل الأطفال. - زيادة معدلات عمل المرأة المصرية، حيث يشكل عمل المرأة الآن 22 % فقط من قوة العمل، وهو معدل ضعيف جدًا، ومن الثابت أن مشاركة المرأة فى سوق العمل والإنتاج الاقتصادى الحديث يجعلها تنجب عددًا أقل من الأطفال تلقائيًا. - زيادة الاهتمام ببرامج تنظيم الأسرة وصحة المرأة والطفل، ليس فقط لأنها تؤدى إلى زيادة استخدام وسائل تنظيم الأسرة وتقليل عدد الأطفال، بل لأنها تؤدى إلى تحسين الصحة العامة للمرأة وتخفيض وفيات الأمهات، وتحسين الصحة العامة للطفل وتخفيض وفيات الأطفال، وهو ما يجعل الأسرة تكتفى بعدد أقل من الأطفال. - تجريم زواج الأطفال ليس فقط لأنه يزيد عدد السكان سنويًا حوالى 250 ألف طفل سنويًا «بحسب المجلس القومى للسكان»، بل لأنه ينتهك حقوق المرأة الأساسية فى الصحة والتعليم والعمل. - خطاب دينى وثقافى لا يركز فقط على أن تنظيم الأسرة حلال، بل يعزز حقوق المرأة فى العمل والمشاركة الاجتماعية والسياسية، ويعزز أيضًا دور الرجل فى الأسرة وتربية وحماية الأطفال.