تجربة ربما نتصور طفولتها أو اختبارها أطفالاً.. وأن اشتركنا بمحبتها جميعاً صغاراً وكبارا.. شخصياً لم يحالفنى ذلك الحظ بتجربة كتلك إلا منذ أيام قليلة.. حين ذهبت لمشاهدة لوحات معرض جماعى بعنوان الأراجوز.. أحببت اكتشاف تصورات فنانين مختلفين لذلك المخلوق المتحدث الظريف الذى لا يقدر على مجادلته أحد.. إلا أننى وجدت عرضاً حياً أو ما تسمى «نمرة» لأراجوز.. وعرض لفيلم تسجيلى عن رحلة أحد أهم لاعبى ذلك الفن «عم صابر المصرى».. ومحاضرة متخصصة عن تاريخ الأراجوز باعتباره فناً شعبياً كان معرضاً للاندثار لولا تلك المحاولات الحثيثة للاعتراف به والحفاظ عليه، والتى حملها د. نبيل بهجت على عاتقه منذ سنوات.. فأدرجته اليونسكو كفن إنسانى عالمى وتراثاً لا مادياً بحاجة للحفاظ عليه. حدث ذلك منذ عام.. بالثامن والعشرين من نوفمبر العام الماضى.. د. نبيل بهجت.. أستاذ ورئيس قسم المسرح بكلية الآداب جامعة حلوان.. مؤسس ومدير فرقة «ومضة» لعروض الخيال والأراجوز.. خبير علمى لدى اليونسكو.. وعمل كملحق ثقافى لمصر بدولة الكويت لمدة ثلاث سنوات.. والذى حمل على عاتقه قضية الأراجوز كفن شعبى معرض للاندثار منذ عشرين عاماً.. • كيف نستعيد فناً شعبياً ولماذا نستعيده؟ «منذ زمن بعيد، عشرون عاماً.. جئت للقاهرة محملاً بذاكرة ريفية.. صدمتنى أشياء كثيرة.. لاحظت خروج المجتمع من نفسه، الملابس والمأكولات والمشروبات.. كل شىء المحلات وشكلها، تغير فى العادات والسلوك.. حملت لنا ثقافات أخرى ونسينا ملامحنا.. ربما تكون القضية أكبر من الأراجوز أو فن معرض للاختفاء».. اللاعبون السبعة ولماذا تعرض للاختفاء؟ لماذا يعانى التراث المادى واللامادى من صراع مع ماتحمله الحداثة؟ قيل لنا كثيراً إن العرب ليس لديهم مسرح.. كيف وقد كنت أرى فى خطبة الجمعة مونودراما..! فكرت من هنا.. لماذا لا نوظف مسرحنا «الأراجوز وخيال الظل» فى مقومات حياتنا.. أسئلة كثيرة طرحتها على نفسى ببداية الرحلة ووجهتنى.. اخترت الأراجوز وقتما كان يتنكر له الجميع.. كانت سُبة.. كان لاعبوه قريبين من الاختفاء.. لم يكونوا موجودين بالموالد الكبرى.. ذهبت لشارع محمد على وعثرت على لاعبين، ولكنهم لم يثقوا بى ولا بأحد.. تعرفت على عم صابر المصرى وكان عنيفاً فى رفضه.. رفض كل تعاون.. وما كان لى إلا أن أحاول مرة بعد مرة.. وظللت أذهب للشارع أجالسهم على القهاوى لستة أشهر تقريباً حتى وثقوا بى.. كل تفاصيل المهنة كانت سراً.. لا يبوح أى منهم بمعلومة لأحد.. ربما لجأوا لتلك الحيلة حماية لأنفسهم.. هى مهنة فى غاية الهشاشة ولا تحظى بحماية أو تأمين من أى نوع، هى ولاعبوها.. ثم وثقت ذاكرة سبعة لاعبين «صلاح المصرى وصابر شيكو وحسن سلطان ونجيب السواح وسمير عبدالعظيم وسيد الأسمر وبشر محمد على».. وتفاصيل كل شىء.. المفردات والمكونات والتقنيات.. ثم أخذت تصريح تصوير الشارع وضعت مسرح الأراجوز أو البرافان.. فى أربعين منطقة مختلفة فى القاهرة ووثقت استجابات الناس وتفاعلهم معه.. ثم توصلت إلى ما أسميه بالذاكرة الجينية.. فنحن نرتبط بالأراجوز ونحبه حتى دونما معرفة حقيقية أو مشاهدة حية له، ولكن نحتفظ بداخلنا بالسعادة والمشاركة التى تفاعل بها أجدادنا معه.. نسعد بما فى داخلنا من سعادة ونتفاعل بمعرفتنا السابقة لمثل هذه التجربة».. • هل نريد للأراجوز التوثيق والوضع فى أرشيفات آمنة فقط؟ «لا بل من الاستفادة منه والحفاظ على فنانيه باعتبارهم كنوزا بشرية.. أزمة الفن الشعبى أن باحثيه يسطون على تفاصيله وينسون أو يتجاهلون تماماً أهل وحَمَلة هذا الفن.. هنا تحدٍ أخلاقى كبير نحتاجه فى دراسة تلك الفنون.. لا نأخذ ما لديهم فقط من معلومات ومعارف ولكن حمايتهم ونقل خبراتهم لأجيال أخرى فيه ضمان للحماية والتجدد والاستمرار.. وإعادة الإنتاج.. تحتاج الفنون الشعبية لاهتمام مؤسسى قومى مثل فنون الأوبرا وغيرها.. لذلك أسست فرقة ومضة لرعاية فنانى الأراجوز وخيال الظل .. ومضة كانت نتاج ورشة احتك بها الجيل القديم بالجيل الجديد.. وبثلاث مفردات فقط «الأراجوز والراوى وخيال الظل» قدمنا أكثر من ثلاثين عرضاً بين التراثى والجديد.. داخل مصر وخارجها.. حققت ومضة نجاحات دولية كبيرة ربما أكبر من توقعاتنا.. فبدلاً من عرض 30 ليلة بالولايات المتحدةالأمريكية قدمنا 121 ليلة عرض.. عرضنا بكل أوروبا والصين وترجمت عروضنا لأكثر من خمس لغات.. كما أننا نعرض داخل مصر منذ تأسست الفرقة عام 2003 كل جمعة ببيت السحيمى.. وهذا كل ما كنا بحاجة له.. المكان الذى يتيح للفنون الشعبية أن تعرض به مثل كل الفنون.. وفى عام 2015 تم اختيار عم صابر المصرى كأفضل وأهم لاعب عربى للأراجوز وحصل كذلك على جائزة الكنوز البشرية من الشيخ سلطان القاسمى.. •«لماذا عاش الأراجوز أكثر خفوتاً مقارنة بفنون شعبية أخرى مثل السيرة الهلالية مثلاً»؟ «لا أؤمن بالسيرة الهلالية لأنها لا تعبر عن تراث عربى حقيقى، ولكن تعبر عن اضطرابات عربية ربما بسبب المجاعة فهى تحمل أخلاقيات المجاعة.. دراستى للمسرح عرفتنى على الأراجوز بطريقة مختلفة.. وجدت به شكلا من أشكال المسرح الموازى.. آمنت بالأراجوز كتحدٍ شخصى ووجدت به مفردات أصنع بها لغة مسرحية.. لمواجهة خطاب ثقافى مغلق وخلق وعى شعبى أصيل.. فنقابل الخطاب الذى لا يعبر عنا والذى يقدم لنا البلطجى واللامبالى كصورة متكررة وشبه يومية بنماذج حقيقية ضاربة بجذورها فى تاريخ الأرض ولا يلتفت إليها أحد.. فالثقافة أصلاً هى الفعل الممارس بشمل يومى»..!