للوهلة الأولى تدرك أنه شخص غير عادى. حاد الذكاء وشديد القلق.. يتحدث بلغة عربية حديثة نسبيًا فلم ينطق بها إلا بسنوات دراسته الجامعية وحين شبهتها بالطفولية فى تلقائيتها وصعوبات التلعثم التى قد تواجههم ضحك كثيرًا.. حين لا يجد المفردة التى يبحث عنها سرعان ما يخترع حكاية ويحدث الشىء. نرى جميعنا ذلك على الشاشة فى حديثه لنفسه أثناء شرح الوصفات وعلاقته مع أدوات مطبخه.. ونداءاته لما لم يتم نضجه بعد.. وكم يستمع لحديث المكونات ويسألها: ما الطريقة التى تحب أن تطهى بها؟! الدكتور وسام مسعود. دارس الطب ومتخصص بأبحاث الأعصاب عمل لسنوات بعيادة أبحاث للأمراض العصبية بجامعة ييل الأمريكية، وهو الشيف وسام صاحب مطبخ وان أو وان «101» الذى اشتهر لسنوات أربع على شاشة سفرة cbc الفضائية المصرية. والآن هو استشارى مطاعم. يقيم مستواها وعضو لجان تحكيم بمسابقات طهى دولية وله عديد من المشاركات فى تأسيس مطاعم ذات مستوى رفيع يقول: «أمارس الطهى كعلم.. كنظام له أسس ثابتة وراسخة ويطرأ عليها متغيرات ما فتجعل من التنوع مساحة شاسعة للتجريب والبحث والتعلم.. الطهى مثل كل علم تشريح، فيزياء.. إلخ». هو الابن الأوسط بين أربعة أولاد. مهندس وأستاذ علوم سياسية، وأستاذ طب جهاز هضمى و أما هو أستاذ جراحة مخ وأعصاب.. أسرة علمية إلى حد بعيد.. بعيد جدًا عن المطبخ.. إلا أن الأم بدأت منذ الطفولة دورًا نادرًا فى إعداد رجل يتحمل المسئولية. أولًا مسئولية إطعام نفسه وإخوته.. فكان على كل منهم إعداد وجبات الإفطار فى إجازات نهايات الأسبوع بشكل دورى. «بدأت علاقتى مع المطبخ من الطفولة باكتشاف الأوانى.. ثم بتجربة للقرفة مع الفول ذات صباح تطايرت ذرات من القرفة فصنعت شرارات باحتراقها.. كانت مدهشة.. ألقى بذرات قليلة فتلمع محترقة.. كنت أفعل ذلك حتى تنتهى القرفة!». إلا أن الموقف الذى بدأ معه اكتشاف التعامل مع المكونات بصورة جديدة بعدما قرأ قصة ذاك الثعلب الذى تناول وجبة من الخبز المبلل حينما تاه من والديه..» ظللت أغسل التوست وأبلله قبل تناوله لأسبوعين تقريبًا حتى اكتشفت أمى. لأب وأم مصريين، أقاما بأمريكا فترة حياتهما الأولى ثم المملكة العربية السعودية. كان لطبيعة حياتهم هذه صفة الاتساع والتنوع فى علاقاتهم مع زملاء عمل وجيران وأصدقاء من بلدان متعددة. ومن ثم التعرف على أكلات من كل مكان.. «كنت وإخوتى دائمى القراءة. وجذبتنى كتب أمى للطبخ. بحثت عن أكلاتى المفضلة بها وتعلمتها لأصنعها كلما أردت». كذلك فى تجربة حياته وحيدًا بمصر للدراسة الجامعية والحياة بأمريكا بعد ذلك للعمل كانت فرصة لتجربة واحتراف الطهى لأكلات كثيرة.. «اقتنيت كتب أكاديمية الطهى وطبقت وصفة جديدة فى كل يوم لسنوات عديدة.. إلى أن أردت ذات يوم معرفة وتقييم مستوى ما أقوم به، فكنت أطبخ أكلات سريعة فى استراحات الغداء فى العمل لزملائى ولما نلت استحسانًا كبيرًا.. جاء اليوم الذى أردت به تغيير كل حياتى. أردت السعادة والبحث عن شغفى الشخصى ليس فقط ما أستطيع عمله وتؤهلنى للقيام به الدراسة والقبول الاجتماعى.. قدمت استقالتى حين بلغت الثلاثين.. وكان حينها هدفى أن أمتلك مطعمًا خاصًا و بعد ثلاث سنوات فقط.. عملت خلالها بمطعم بالمعادى مع الشيف أيمن سمير.. اختبرنى وشجعنى لتحمل مسؤلية مطعمه حتى إنه منحنى رداءه». افتتح مطعمه قبيل يوم ميلاده الثالث والثلاثين بعشرة أيام فقط.. كسب التحدى والرهان أمام نفسه والجميع.. «أسعد أوقاتى فى الحياة حين أرى الطلبات وأثناء إعداد الأطباق والإشراف عليها حتى اللحظة التى أخرج بها لأطمئن على مستوى الخدمة وجودة الطبق وسعادة الضيوف». أول فصل فى أى تخصص نجح الدكتور فى أن يصبح طاهيًا مرموقًا. وحظى بقبول اجتماعى رفيع المستوى مثلما يقدمه وكذا لم يفقد عائلته احترامهم لقيمة ما يفعل.. وتوالت المطاعم التى افتتحها وشارك فى تأسيسها وأشرف عليها.. ثم أتت إلى حياته الشهرة ذات يوم.. «جاءنى تليفون بأحد الأيام من شخص لا أعرفه قائلًا لى لديك غدًا اختبار بمكان كذا وفى تمام الساعة كذا! ولما نبهته أنى لا أعرفه ولا أفهم هذا طلب أم إبلاغ.. سارع بلطف فى إيضاح أن هناك محطة فضائية جديدة متخصصة ببرامج الطهى.. نجحت باختبار الكاميرا ومن ثم نجحت بالبرنامج وتعلمت الكثير مما لا يمكن وصفه.. فقد كنت أقدم خمس حلقات أسبوعيًا.. علىّ أن اخترع وصفة جديدة بكل مرة.. جربت واكتشفت واستمتعت للغاية... حتى إنه أصبح لدى ما يفوق25 وصفة للحمام فقط!.. المدهش أنى لا أعرف إلى الآن من أين أتوا برقم تليفونى.. ولماذا اتصلوا بى؟!. وعن اسم البرنامج 101.. تعنى ألف باء مطبخ.. حيث إن بالدراسة وفق مناهج أمريكية يبدأ العد من الرقم الواحد بعد المائة.. مما يعنى أنه أول فصل فى أول صف فى أى تخصص. أختار أكون بصل مكتبه عبارة عن مطبخ.. يجرب وصفات جديدة يفكر بها أثناء سيره فى الشارع أو سفره أو يتخيلها قبل النوم وأثناء الأكل.. أفكار أفكار وأحلام يريد تحقيقها وربما تتكاثف بذهنه وتجعله شاردًا بعض الوقت وقلقًا بعض الوقت.. وهو عملى جدًا رغم خياله الشديد.. يعمل كل يوم ويخطط لأعمال قادمة.. يسجل أفكارًا حول أكلات ووصفات ربما سيجربها ويعدها بعد شهور.. «لدى آلاف الوصفات المجربة والناجحة فى الأدراج.. لم أجد الوقت لأجهز كتبًا خاصة بى حتى الآن.. ولدى مسودات لأفكار لم تجد الوقت للتجربة بعد.. ستجد طريقها». الرجل الذى يحب عمله إلى هذا الحد ويعمل بذلك الشىء ذاته الذى هو منبع الشغف لديه.. قد يكون سعيدًا حقًا إلا أنه منهك للغاية. فقد ينسى مفاتيحه أو علبة سجائره بينما هو شارد فى وصفة ما.. «نفسى أبطل تفكير فى الأكل».. وبينما يبذل كل ذلك المجهود لاختراع واكتشاف مذاقات جديدة بعيدة ومدهشة.. تمتعه أكلته المفضلة دائمًا «البيض»، «أحبه كريمى ومشبع بالزبدة مع خبز إنجليزى» إنجلش مافن.. يكره الخيار.. ويكرر أنه يكره الخيار.. ولا يفهم ماهيته. وحينما سألته أى الأطباق تشبهك.. «حاجة سويت آند ساور.. أو كشرى عشان فيه حاجات كتير.. لا لا كمونية عشان مش أى حد يحبها.. ممكن بصل لأنه فيه طبقات كتير، وبيستخدم استخدامات كتير.. آه آه أختار أكون بصل»!!! والدة الشيف وسام من بين كتب الطهى فى التاريخ يبزغ كتاب دليل الطهو للطاهى الفرنسى ذائع الصيت «أوغسطين أوسكوفير» فى بدايات القرن العشرين الملقب بملك الطهاة وطاهى الملوك... ولكنه ومن تلاه استفادوا حتمًا من مارى أنتونى كاريم الفرنسى أيضًا. وهو قبل أوغسطين بقرنين من الزمان. وضع قواعد المطبخ الصارمة وبنى تقنيات مطبخه «الهوت كوزين» المطبخ الرفيع الراقى ومن ثم نتج عنه «النوفيليو كوزين» أو المطبخ الجديد.. واخترعت مصطلحات المطبخ على يد ناقد الأطعمة «هنرى جاولت وزميليه آندرى جايت وكريستيان ميلاو» فى كتاب دليل مطعم جديد. إلا أن هناك ربما ما هو الأقدم إلى الآن كتاب بعنوان «كتاب الطبيخ» وهو عربى يعود للقرن الثالث عشر الميلادى لمؤلفه محمد بن الحسن البغدادى.. ثم كتاب «الفوائد فى الموائد» الذى يعود لذات الزمن.. ورغم أن ما اشتهر لدى معظمنا كتاب «أبلة نظيرة» لنظيرة نقولا وبهية عثمان.. إلا أننى أود هنا شكر تجربة الأم..أم الشيف وسام، السيدة مدرسة الأحياء التى تعاملت مع أطفالها الخمسة بحب ومسئولية وبساطة وانعكس ذلك فى تعاملهم مع الطعام بنجاح واحترام بالغين. «الأكل الحلو تدوقه زى المزيكا وتشمه زى الألوان!» جملة اشتهرت بفيلم الكارتون الأمريكى الحاصل على جائزة الأوسكار عام 2007 « خلطبيطة بالصلصة» الذى تناول الطبخ كشغف، وفن، كموهبة بالدرجة الأولى قبل اعتماده عملًا ومهنة ذات قواعد وأصول بالغة الصرامة وذات أسس قديمة. وتحت شعار «الطبخ للجميع» ألهم أوجست جوستو ذاك الشيف فى الفيلم كل من له ذات الشغف!. «الطبخ للجميع معناه أن الكل يقدر لكن مش الكل موهوب» كما قال جوستو! أينما وجدت الموهبة مع العمل بجد وصبر كبيرين ودائمين فثمة عبقرية.. هذا الذى أكد عليه الفيلم ولمس قلب وحلم كل ذى شغف.. فمنحنا جميعًا الأمل وفتح بابًا أمامنا لمزيد من العمل.. «متتحججش بأصلك وفصلك، روحك هى اللى بتلهمك».