بدأت القصة فى القارة الأفريقية بتلك الحكايات الشفاهية التقليدية ذات الجذور المتعمقة فى الفلكلور وأساطير الأقدمين، والتى ظل الناس يتناقلونها من جيل إلى آخر، ورغم أن ذلك النوع من الأدب الشفاهى ما زال موجودًا حتى الآن بسبب تعدد اللغات الأفريقية الدارجة غير المكتوبة، فانتشار الإنجليزية والفرنسية بعد الاستعمار وولادة جيل جديد من الأفارقة ممن يجيدون لغة المستعمر قد ساعد فى خلق القصة المكتوبة المتعارف عليها. لكن ذلك النوع الأدبى الجديد ظل متراجعًا أمام الأشكال الأدبية الأخرى كالرواية والمسرح ولنأخذ مثلاً بالروائى النيجيرى «تشينوا أتشيبى» الذى ازدهرت أعماله الروائية وتراجعت أمامها الأعمال القصصية بسبب حركة الترجمة التى وجدت فى أعمال «أتشيبى» وغيره من المبدعين الذين يكتبون بالإنجليزية فرصة لترجمة أعمالهم إلى عدة لغات أخرى دون أن تتاح لحركة الترجمة القدرة على ترجمة القصة القصيرة المكتوبة باللغات الأفريقية الدارجة. كما كان تحويل روايتين من روايات «أتشيبى» إلى أعمال سينمائية سببًا آخر فى انتشار الرواية وتراجع القصة القصيرة بالإضافة إلى سبب ثالث وهو تدريس بعض الأعمال الروائية فى مدارس غرب أفريقيا . المسرح الأفريقى أما عن المسرح، فإن انتشاره وتراجع القصة القصيرة أمامه يرجع إلى أن المسرح يعتمد فى توصيل رسالته على الأصوات التى تردد كلمات المسرحية على آذان المستمعين- بمن فيهم أولئك الذين لا يجيدون القراءة - أكثر من اعتماده على الكلمة المطبوعة، كما حدث مثلاً مع «وول سوينكا» كاتب الدراما أو عاشق المسرح، والذى تمتع بشعبية كبيرة عند عرض أعماله على خشبة المسرح. ويتمتع «سوينكا» بالشعبية الكبيرة نفسها ليس فقط بين أبناء قومه وإنما فى معظم العواصم الأوروبية والأمريكية بسبب عرض أعماله المسرحية على مسارح تلك البلاد، بالإضافة إلى حركة الترجمة التى ساهمت فى التعرف على جميع إبداعاته الروائية والمسرحية وحتى قصائده الشعرية، ولم تكن جائزة نوبل التى حصل عليها فى عام 1986 اكتشافًا لذلك المبدع لأنه كان ذائع الصيت قبل الحصول عليها. مما يؤكد دور الترجمة فى الحياة الثقافية والمعرفية، وأجد لزامًا عليّ أن أشكر د.ميرفت حاتم أستاذ الأدب النسائى بجامعة واشنطن، لما قدمته لى من خدمة عظيمة حين تكرَمتْ وأرسلت لى من أمريكا عام 1984 رواية مع رسالة تقول:(إنها رواية مهمة وشيقة لكاتب أفريقى يتردد اسمه فى الأوساط الأدبية منذ عشرين عامًا وأخشى ألا تكونوا قد سمعتم به فى القاهرة !!). كان صاحب الرواية هو «وول سوينكا» الذى لم أكن قد سمعت عنه من قبل، والذى حصل على جائزة نوبل بعد عامين من تعرفى عليه مما جعلنى أشفق على حركة الترجمة عندنا والتى نعرف جميعًا أسباب تراجعها رغم وجود عدد كبير من المترجمين الذين يتمتعون بثقافة عالية وقدرات هائلة وبمقدورهم – لو توفر لهم التقدير المناسب – أن يساعدونا فى اللحاق بقطار المعرفة الذى يسير بسرعة فائقة . حدث الشيء نفسه فى أفريقيا الفرانكفونية التى يكتب مبدعوها باللغة الفرنسية فنجد الروائى «كامارالار» من السنغال، والروائى «يامبو أولوجيم» من مالى وقد تمتعا بشهرة كبيرة لدى قراء الفرنسية، خاصة بعد حصولهما على بعض جوائز الأدب الفرنسى، ومن هنا ظل كاتب القصة الأفريقى غير معروف فى معظم الأحوال لهذه الأسباب، وكان ذلك بالطبع خسارة كبيرة للقارئ، لأن القصة الأفريقية الحديثة تنتمى إلى الأدب التقليدى الشفاهى القديم الذى يلقى الضوء على تراث وعادات تلك القارة متعددة الثقافات. انطلاق القصة الأفريقية لكن تراجع القصة القصيرة لم يدم طويلًا حين تيقن مبدعوها أن كتاباتهم باللغات الدارجة لا تتجاوز الحيز الضيق الذى يعيشون فيه، ولا بد لهم من الكتابة بالإنجليزية أو الفرنسية اللتين أصبحتا اللغتين الرسميتين فى معظم البلدان الأفريقية، وبالتالى بدأت القصة القصيرة فى الانتشار وكان لصدور بعض الدوريات الخاصة بنشر إبداعات القصة القصيرة دور كبير فى ذلك. ومن أهم تلك الدوريات مجلة Spear فى نيجيريا ثم مجلة Drum فى جنوب أفريقيا وغرب أفريقيا فى وقت واحد، التى صدرت أول الأمر عام 1950 وكان «حزقيال مفاليلى» من جنوب أفريقيا – الذى يلقبونه بعميد الأدب الأفريقى - واحدًا من الذين عملوا على النهوض بالمجلة والتركيز على نشر القصص القصيرة . قال «مفاليلى» فى رائعته (The African Image) أن ظهور مجلة (Drum) كان إطلالة هائلة ومثيرة عن نشاط كتابة القصة القصيرة وقد ساهمت المجلة فى رسم صورة توضيحية عن القصة القصيرة فى أوساط المتحدثين بالإنجليزية. أشار «مفاليلى» أيضًا إلى قصص المجلة قائلًا: إنها قصص قصيرة تجنح للهروب من الواقع إلى الخيال . أما « توم هوبكنسون» الذى تولى رئاسة تحرير المجلة فى بداياتها فقد علّق على أحد المقالات قائلاً: حين بدأت فى مباشرة عملى بالمجلة كان أول ما شدنى وأدهشنى هو الكم الكبير من القصص المرسلة وبخاصة حين تم الإعلان عن مسابقة القصة القصيرة، ولأننى أميل نحو الدقة فقد قرأت كل القصص ووجدت أن ست قصص منها تحكى عن الحب، وواحدة أو اثنتين عن الطبيعة والأسود والنمور، أما غالبية القصص فكانت عبارة عن خيالات عن العنف والشراسة والوحشية وتتمركز فى معظمها حول حياة الأشقياء فى الأقسام الإدارية بالمدينة أو فى محاولة إيجاد مبرر يمنح الصفة الشرعية للعنف كما يحدث فى حلبات الملاكمة وكان الموضوع الغالب – بشكل أو بآخر – هو الخراب والتدمير والهدم . وفى مجموعة مقالاته علق «لويس كوسى» على قصص مجلة (Drum) قائلاً: بالرغم من الأكاديمية المصاحبة لمجلة (Drum) – على الأقل فى بداياتها – فإن أهمية المجلة لا يجوز إنكارها، ويكفي أنها كانت السبب الرئيسى وراء ظهور وانتشار العديد من كتاب القصة الذين يتمتعون بموهبة كبيرة فى معظم أرجاء القارة الأفريقية وبشكل خاص فى جنوب أفريقيا. لم تكن مجلة (Spear) فى نيجيريا ومجلة (Drum) واسعتى الانتشار وحدهما فى ذلك المجال فقد ظهرت مجلات أخرى فى مختلف عواصم القارة الأفريقية كان لها الفضل فى انتشار القصة القصيرة، غير أن تلك الإصدارات انتهجت شكلًا مختلفًا وراحت تتوجه إلى قارئ واعٍ وعلى دراية بشئون حياته كما حدث مع مجلة (black Orpheus) الصادرة من نيجيريا والتى أسسها بالإنجليزية المستفرق الألمانى «يان هايتريان» عام 1957 وعلى صفحاتها ظهرت قصص كثيرة لمن أصبحوا فيما بعد من أكبر المبدعين الأفارقة مثل «تشينوا أتشيبى Chinua Achebe» و«آموس توتولا Amos Tutola» و«سيبريان إيكوينسي Cyprian Ekwensy» وقد توقفت عن الإصدار مدة طويلة ثم عادت للظهور مؤخرًا على يد الكاتب المسرحى النيجيرى «جون بيير كلارك»، ثم مجلة (Transition) فى أوغندا التى صدرت بالإنجليزية عام 1961 والتى انتقلت بعد سنوات إلى نيجيريا حيث قام بالإشراف على تحريرها الشاعر والروائى والمسرحى الشهير «وول سوينكا Wole Soyinka» الحاصل على جائزة نوبل عام 1986 ومجلة (Darlite) فى تنزانيا، وكذلك مجلة (Okyeame أوكييامي) التى أصدرتها رابطة الكتّاب بغانا باللغة الإنجليزية فى العام 1961 وقد تولى القاص والشاعر «كوفى أونور Kofi Awoonor» المولود في 13مارس 1935 والذى تم قتله في 21 سبتمبر 2013 فى هجوم حركة الشباب على مركز (ويست جيت) التجارى فى العاصمة الكينية نيروبى رئاسة تحريرها إلى أن توقفت المجلة عن الصدور بعد سقوط نظام نكروما. مجلات القصص القصيرة وكما أننا لا نستطيع إغفال دور الترجمة فى ازدهار الأدب الأفريقى والقصة القصيرة على وجه التحديد، كذلك لا يمكننا أن نتجاهل الدور الكبير الذى لعبته تلك المجلات فى ازدهار القصة القصيرة وتطورها فقد كانت بمثابة المعمل الذى نضجت فيه القصة القصيرة. صدرت فى العام 1942 مجموعة قصصية لكاتب جنوب أفريقيا الشهير «بيتر أبراهامز Peter Abrahams» بعنوان (العهد الأسود Black Testament) وقد علق «تشينوا أتشيبى» فى سياق حديثه عن هذه المجموعة وفى تقديمه لمختارات متفرقة من القصة القصيرة عام 1985 قائلًا: لقد حظيت القصة القصيرة باهتمام الأدباء الأفارقة منذ صدور مجموعة (العهد الأسود) للكاتب» بيتر إبراهامز. الجدير بالذكر أن قصص مجموعة (العهد الأسود) التى أشار إليها «أتشيبى» هي قصص فقيرة فنيًا وفكريًا لأنها فقط مليئة بالأحداث والحكايات التى تغلب عليها العواطف والمشحونة بالانفعالات وتفتقر إلى الحبكة الفنية، ما يفسر توقف كاتبها عن كتابة القصة القصيرة واللجوء إلى كتابة الرواية التى برع فيها.