قبل أن ينطلق فى حديثه أرتشف رشفة من كوب الشاى المتحفز لسماع كلماته ، بحث الخباز بعينه فى الفراغ الشتوى البارد المحيط بنا على رصيف المقهى عن نقطة الأرتكاز التى تقوم عليها قصته ، عثر عليها وكانت أشارة العثور أبتسامة أنتصار حملتها شفتيه ، أراح كوب الشاى على الطاولة ليعطى إلى كفيه حرية التعبير لتتناغم مع حركة شفتيه أثناء الحديث. لا أعلم لماذا أصطحبتنى أمى معها فى هذا اليوم إلى المقابر لم أكن تجاوزت بأى حال الخمس سنوات ، لكن أذكر كل تفاصيل اليوم جيدا، ضحك الخباز الغريب ألا أتذكر من الذى مات وذهبنا لنترحم على ذكراه بالمقابر فى أحد أيام الخميس. أفترشت النساء اللابسات السواد كليم صوفى قديم ومن بينهن أمى ليحميهن من برودة الأرض الصلبة المتربة وأحاطت بهن أصص فخارية زرع بها صبار يزيد عمره عن أعمار الراحلين ، راقب الصبار فى ضيق السوداوت الجالسات أمامه متمنيا أن يرحلن سريعا وتعود السكينة مرة أخرى إلى مراقد الراحلين. لاأعلم أذ كانت أمى ومن معها محزنون بالفعل أم يتصنعن الحزن لكنهن أستسلمن إلى سيدة عجوز شبه كفيفة تلقى عليهن عظة عن فائدة الموت ضحك الخباز بشدة هذه المرة تركت أمى ومن معها مستسلمات للعجوز وأنطلقت أبحث على من يشاركنى اللعب لم أجد سوى الصبار ، حاولت أنتزاع بعض منه فعاقبنى بجرح يدى ، عدت إلى أمى باكيا لكنها لم تربت على ظهرى كما تفعل دائما عندما أقع أو أصاب بل ضربتنى بشدة فتدخلت سيدتين بدينتين تجلسان بجوارها لينتزعانى من يديها التى تنهال على بالعقاب ، أجلستنى أحداهن أمامها وربتت على ظهرى كما كانت تفعل أمى وزادت بأن مسحت وجهى بيديها الخشنة لتطرد الدموع من على خدى الصغيرين ، نظرت للصبار فى غيظ وغضب وتوعدته فى مرة قادمة. أشتمت أنفى فجأة رائحة غنية وشهية تأتى من مكان مجهول من طزاجة الرائحة تمهلت العجوز فى حديثها عن فائدة الموت وبحثت هى الأخرى عن مصدر الرائحة الشهية وأبتلعت لعابها فى جوع دخلت على الجمع النسائى المغطى بالسواد شابتين صغيرتين يرتدين الأسود مثل أمى وقريناتها يحملنا سلة من الخوص الأصفر ومغطاة بقطعة من القماش الأبيض ، عكس العجائز الجالسات على الكليم الصوفى القديم كانت الشابتين وجهيهما صبوح وبض ، تأكدت أن مصدر الرائحة الشهى يأتى من السلة جريت تاركا السيدة التى مسحت دموعى منذ قلبل تجاه هذه المتعة ، حاولت نزع قطعة القماش الأبيض لكنها كانت مثبتة بأحكام ، ضحكت أحدى الشابتين فى خجل وساعدتنى يدها البيضاء الناعمة فى رفع القماش الأبيض ، أمتلئت السلة عن أخرها بأرغفة خبز ذهبية بدينة ومتراصة بجوار بعضها البعض فى سكينة الواثق من نفسه ، أمتدت اليد الناعمة وأنتقت رغبف ذهبى بدين ساخن وأعطته لى ، لا أنسى طعم هذا الذهبى ، صنعت ملايين الأرغفة لكن لم يزول طعمه من فمى حتى الأن. حملت الشابتان السلة الممتلئلة بالأرغفة الذهبية ودارتا بها على الجالسات كل منهن مدت يدها وأخذت فى شهوة رغيف أو رغيفين أما العجوز صاحبة الكلام عن فائدة الموت فقد أختطفت عدد كبير من الأرغفة وخبأت بعض منها فى حقيبة من القماش وضعتها بجوارها. بدأن يأكلن فى شهية الأرغفة الذهبية فتوارى الحديث عن الموت جانبا وأنزوى بجوار أصص الصبار وأنطلقت المغطيات بالسواد ومعهن صاحبة عظة فائدة الموت يتكلمن فى أمور أخرى وحول نساء أخريات وعن أولاد وبنات فى مثل عمرى ، رحلت سيرة الموت غاضبة من المكان تاركة الساحة لأحاديث الحياة التى لا تنتهى. أبتسم الخباز لى ولصديقى الجالس بجوارى على رصيف المقهى.. ومن يومها أحببت الخبز ورائحته وصممت على أن أعمل خبازا فالخبز طرد سيرة الموت بل هو الحياة نفسها. صغت حديث الخباز بلغة الكتابة لكنه عندما حكى لى ولصديقى عن سبب عشقه للخبز ومخبزه روى الأمر بعامية مصرية لطيفة ولم تختلف التفاصيل بين الروايتين ما أختلف فقط طريقة النقل بين الشفهى والمكتوب. لكن لماذا جالسنا الخباز ليحكى لنا سيرته مع الخبز والمخبز لأنى أعتدت وصديقى الذهاب إلى هذا المخبز وشراء الأرغفة منه وكل ما يصنعه من أنواع مخبوزات مختلفة يتفنن فى صنعها ويجيدها أجادة تامة. أكتشفنا جودة منتجه مصادفة عندما ذهبنا له للمرة الأولى وعندما أعتدنا الذهاب أكتشفنا أننا لسنا الوحيدين الذين عرفوا سر مخبوزاته اللذيذة بل هناك المئات غيرنا الحرصين على الشراء منه وعندما رأيناه يعمل فى المخبز بيده أندهشنا من ذاكرته الحديدية وبشاشته فهو يعلم بدقة شديدة أحتياجات زبائنه وعدد أطفالهم ومايفضلونه ولا يكتفى بهذا بل يقدم لهم فى سعادة أبتكاراته الجديدة فى عالم المخبوزات ويصر على أن يأخذوا منها كمية مجانية الى أطفالهم ليجربوها. كان الأكثر دهشة بالنسبة لى وصديقى أن جميع العاملين فى المخبز نسخة منه يمتلكون نفس الذاكرة الحديدية والبشاشة التى لاتنقطع عن وجوههم فى معاملة زبائن المخبز وعندما تزداد كثافة الزبائن فى أخر الليل لا تعرف من فيهم صاحب الخبز والعامل فكلهم يعملون فى تفانى وهمة لأرضاء القادمين للشراء من المخبز. يهتم الخباز وفريقه بأدق التفاصيل فيحرصون بشدة على نظافة ملبسهم وتقديم المخبوزات بطريقة صحية فيرتدون قفازات بلاستيكية وينحوا جانبا المخبوزات التى مر عليها وقت أثناء العرض . فى أحدى المرات خالفت وصديقى العهد الليلى مع الخباز ومخبزه المميزوذهبنا الى مخبز أخر ، كان هذا الأخر أكبر مساحة والعاملين به أكثر عددا لكنه بلا بشاشة ولا جودة ألقوا لنا الأرغفة فى عدم أهتمام لاتداعب أنفك رائحة الخبزالطازج الشهية كما فى مخبز صديقنا الخباز كان المخبز الأخرملقى مثل قتيل أزهقت روحه والقتلة معرفون بالتأكيد أنهم الذين يديرون المخبزوعلى رأسهم صاحبه الذى يشاهد القتلة دون رد فعل ويتركهم يخربون فى المكان حتى وصل الى هذا الحالة من الموات. لم أستطع أنا وصديقى بعد ليلة الشراء من المخبز الخرب أنا نقاوم الفضول الصحفى فى أكتشاف سر خلطة النجاح والتفوق التى يمتلكها هذا الخباز الماهر فكان الحل دعوته الى كوب شاى فى المقهى القريب من المخبز. حكى لنا فى البداية سر عشقه وأخلاصه للخبز كما كتبت فى أول هذه السطور ، بعدها شعر الخباز الماهر بخجل شديد عندما أشدت وصديقى بتفوقه ومهارته وجودة مخبوزاته. كان خجل الخباز الماهر هو خجل كل موهوب حقيقى أجاد عمله وأتقنه فهؤلاء الموهبون الجادون لا يروا فيما يفعلونه ويقدمونه من خير لمجتمعهم أمرخارق للعادة بل الأجادة والتفانى فى العمل أمر طبيعى يجب أن يحرص عليه جميع البشر. تحرر من خجله قليلا وأقسم بأنه مهما كان حبه للمخبز والخبز فهو مجرد فرد والسر كله يكمن فى العاملين بالمخبز فهم صناع هذا النجاح والتفوق سأله صديقى فى فضول لكنك من تختار العاملين فى مخبزك فهم لا يفرضون عليك مثلا فأنت بالتأكيد تملك وجهة نظر فى من سيشاركك العمل.. غلف الخجل ونبرة التواضع حديث صديقنا الخباز أعود لصياغة حديث صديقنا الخباز بعيدا عن الشفهية عندما تكلم الخبازبهدوء ليشرح كيف يدير مخبزه فر الخجل تاركا مساحة الحديث كاملة لرجل واثق من عمله وفى رجاله الذين يعملون معه. قال ونحن ننصت له .. نعمل كلنا من أجل المال والنجاح والتفوق والشهرة ولكى نعلوا على الأخرين بنتاج عملنا وأرى دائما أنها الدرجة العادية من أهداف العمل وعندما تتحقق هذه الأهداف يمكن أن نطلق عليه عمل ناجح لكن بالنسبة لى لا أختار من يعملون معى وفق هذه القواعد المعتادة دائما أبحث عن صفتين فى من يعملون معى أمتلاكهم لرؤية كيف يريدون أن يروا مخبزهم والأخلاص فى تحقيق هذه الرؤية. عنما يمتلك الأنسان هاتين الصفتين لن يقف أمامه عائق والأهم لن يكتفى بتحقيق الأهداف العادية فى العمل بل سيقدم عمل مبتكر مميز لأن هدفه الأول أن يرى المخبز الذى يعمل فيه هو الأول وتصبح قيمة المال والنجاح أمر جانبى. بعد هذا الحديث بسنوات كان المخبز الصغير تحول الى سلسلة من المخابز ودائما ماتجد أمام الأفرع المنتشرة سيارات عليها علامات المطاعم الشهبرة تشترى كميات كبيرة من خبز صديقنا الخباز ورغم هذا التفوق عندما نذهب الى المخبز أو أحد الفروع نجد جميع العاملين فيه نسخة من صاحبه يمتلكون ذاكرة حديدية و البشاشة تعلو وجوههم أما العاملين الصغار الذين كانوا يعملون فى المخبز الأول فأصبحوا مديروا الفروع ومنهم من أسس عمله الخاص ولكنهم جميعا يتبعون درس أستاذهم الرؤية والأخلاص. تذكرت درس الخباز لأننى مررت وصديقى على المخبز السيئ الذى أشترينا منه فى أحدى الليالى فأصبنا بالدهشة فقد كانت هناك أثار حريق مهول طال المخبز بل وصلت أثار الحريق الى البناية التى بها المخبز ودمرتها، سألنا أحد أصحاب المحلات المجاورة له أخبرنا أنه شب حريق ضخم فى المخبز وحاولنا الأطمئنان على من كانوا يعملون فيه أبتسم صاحب المحل ساخرا عندما بدأ الحربق فر الجمبع حتى صاحبه وتركوا المخبز يحترق.•