يرى الكثير من الباحثين أن كتاب «الخطط التوفيقية لمصر ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة» لعلى مبارك هو كتاب فى التاريخ السياسى والاجتماعى والاقتصادى لمصر فى القرن ال19،يستكمل ما بدأه المقريزى فى كتابه الخطط.. ويرى آخرون أن طريقة كتابة خطط على مبارك تختلف فى طرحها لحركة الناس والعمران عن تلك التى كان يكتب بها المقريزى، فى الرؤية وليس فقط وسائل الرصد وأدواته وطريقة التناول. الكتاب الذى يقع فى 20 جزءا، خصصت الأجزاء الستة الأولى منه لمدينة القاهرة، والسابع للإسكندرية، وباقى المدن المصرية فى الأجزاء من الثامن إلى السابع عشر، وخصص الثامن عشر لنهر النيل واحتفالات المصريين به ومقاييس النيل، منذ عهد قدماء المصريين وحتى القرن ال19، أما الجزء التاسع عشر فكان عن الترع والرياحات والبحيرات فى شتى أنحاء مصر، بينما خصص الجزء العشرين لتاريخ النقود المصرية والموازين فى كل العصور. سار على مبارك على نهج المقريزى فى كتابه «الخطط»، فتتبع مدن مصر وقراها من حيث موقع المدينة أو القرية من أقدم العصور وحتى كتابة الخطط، ووصف ما بها من منشآت ومرافق كالمساجد والكنائس والمدارس والكتاتيب، والمستشفيات والمصانع والقصور والدور والحمامات، وما أصابها من تغيرات، وأبرز الأعلام الذين ولدوا أو عاشوا أو دفنوا بها. ويميز خطط على مبارك أنه استفاد من نتائج الكشوف الأثرية فى القرن التاسع عشر، وما كتبه الأوروبيون عن تاريخ مصر القديمة، ومظاهر الحضارة التى دخلت مصر فى القرن ال 19، وتراجم للشخصيات التى عاشت بعد وفاة المقريزى، فى 1441 م. وفى رأى الدكتور عبد المنصف سالم، أستاذ الآثار والعمارة بجامعة حلوان، على مبارك أكمل ما جاء به المقريزي فى خططه، فالمقريزى الذى عاش فى العصر المملوكى الجركسى، قد أرخ فى خططه لمبانى وآثار وعمائر مصر من العصور السابقة عليه، وجاء على باشا ليؤرخ للعصر التالى وهو العصر العثمانى، واستفاد من عمله ناظرا للأوقاف والأشغال، أن يكتب ويؤرخ للآثار الإسلامية والمساجد فى عصر إسماعيل وتوفيق. ويشبه د. عبد المنصف طريقة على مبارك فى التأريخ بطريقة د. ثروت عكاشة الذى يراه مؤرخ الفترة المعاصرة، فقد كان ثروت عكاشة وزيرا للثقافة، وألف مجموعة من الكتب الرائعة عن الفنون، مثل كتابه «فنون عصر النهضة»، وكتابه «الفن الفارسى». ولأن جميع المشروعات التى كانت تنشأ فى عصر الخديوى إسماعيل ومن بعده توفيق كانت تمر على وزير أشغاله على مبارك، فكان يشارك فى تصميم بعضها، مثل مشاركته فى تصميم مسجد الحسين، كما كانت لديه المخطوطات التى كانت محفوظة فى الزوايا والمساجد القديمة، والمخطوطات التى أهديت للخديوى إسماعيل ومن بعده توفيق، والتى جمعها فى مبنى واحد هو الكتب خانة، أو دار الكتب التى أنشأها. ويعتبر على مبارك أول من كتب عن مميزات العمارة الرومية الإفرنجية فى مصر وسماتها، «إيطاليا واليونان وجنوب تركيا»، والذى استفدنا منه كثيرا كباحثين، بحسب عبد المنصف. عاصم الدسوقى: خطط إنتقائية كتبها رجل دولة«الجبرتى ليس موضوعيا والمقريزى رأى ما لا يراه المصريون» لكن المؤرخ د.عاصم الدسوقى: أستاذ التاريخ الحديث فى جامعة حلوان، يرى أن على مبارك كان حريصا فى خططه، على أن يتجنب المواجهة مع السلطة، فعندما ألف الخطط وأراد نشره فى عصر توفيق، وكان قد كتب أحد الأجزاء، بعد فشل الثورة العرابية، فتحاشى ذكر القرى التى نِشأ فيها زعماء الثورة العرابية، أمثال أحمد عرابى ومحمود سامى البارودى، «وهى طريقة المثقفين والسياسيين فى قراءة مافى ذهن الحاكم والمسئول» يشرح د. عاصم. ويقارن الدسوقى بين طريقة تاريخ الجبرتى، وبين طريقة المؤرخ على مبارك بقوله: عبد الرحمن الجبرتى الذى عاصر الحكم العثمانى ومجيء الحملة الفرنسية، والفراغ السياسى من 1801- 1805، إلى أن توفى الجبرتى 1824 عندما توقفت فى ذلك التاريخ يوميات المؤلف التقليدى، الذى كان يؤرخ أولا بأول ويوما بيوم، وينطبق على الجبرتى، اسم المؤلف التقليدى، لأنه كان يؤرخ للحدث عند حدوثه، وكانت هناك أيام لا يكتب فيها شيئا، لأنه لم يحدث فيها حدث يذكر، وأحيانا كان يقول «سمعت»، فكان يشبه الصحفى الإخبارى الذى يسجل الحدث ولا يحلله، لكنه فى مسألة محددة ذكر رأيه، عندما قام محمد على بإلغاء نظام الالتزام فى جمع الضرائب، والخاص بجمع الضرائب من الفلاحين، حيث يتقدم شخص يسمى الملتزم بدفع نصف الضرائب المخصصة على مجموعة من الفلاحين، للدولة، ثم يجمعها من الفلاحين بعد إضافة فوائد عليها. وهو النظام الذى ألغاه محمد على 1814، وجعل الدولة هى المسئولة عن جمع الضرائب، وهنا يعلق الجبرتى: «وهنا حجر محمد على على الأرزاق واحتكرها»، لنكتشف من هنا أن الجبرتى كان هو نفسه ملتزما، على ناحية أبيار التابعة لمحافظة الغربية، وكان يعيش من هذا العمل، بينما كان يسكن فى القاهرة فى حارة الصناديقية، الموازية للصاغة فى الحسين، وقبل هذه الحادثة فى مارس 1811، عندما حدثت مذبحة المماليك على يد محمد على، علق الجبرتى المؤرخ على الحادثة «محمد على أعمل فيهم الذبح والقتل، وما ربك بظلام للعبيد». وهنا يؤكد المؤرخ عاصم الدسوقى أن المؤرخ الجبرتى، كان ذاتيا وليس موضوعيا فى التأريخ للأحداث. أما المقريزى الذى قدم من سوريا، فتميزت كتابته للتاريخ بأنه كان يرى فى مصر أشياء لا تلفت انتباه المصريين، وهو ما ظهر فى كتابه السلوك فى معرفة دول الملوك، فالغريب قد يرى ما لا يراه ابن البلد أحيانا. لطيفة: «كاتب موسوعى ورجل دولة تكنوقراطى» أما ما يميز على مبارك، كمؤلف من وجهة نظر أستاذة التاريخ الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية، لطيفة سالم، فهو أنه كاتب موسوعى كتب فى التعليم والتاريخ والعمران، وهى المجالات التى عمل بها واهتم بها، بوصفه من المصريين القليلين الذين تقلدوا مناصب عليا فى الدولة المصرية فى ذلك الوقت، والاهتمام بالتاريخ الاجتماعى حاضر فى ذهنه فى كل مؤلفاته، لا سيما الخطط التوفيقية، إلى جانب أسلوبه القصصى فى كتابه «علم الدين». «رجل دولة تكنوقراطى، فمواقفه السياسية لا نستطيع تحديدها، هو رجل لديه طموحات فى إصلاح المجتمع، تتمثل فى التعليم والتربية والأخلاق، لا يحب التغيير المفاجئ الذى تحدثه الثورات، لذا كان يفضل الابتعاد خلال الأحداث الثورية، ليهتم بالأراضى والمنح والهبات التى حصل عليها فى عصر الخديوى إسماعيل، لأنه يرى أن الثورة الحقيقية تحدث عندما يتعلم الشعب، وقتها كان التعليم مقتصرا على الطبقة المثقفة فقط». تدلل د. لطيفة بقولها: رؤية على مبارك فى الإصلاح عن طريق التعليم، جعلته يفتح بيته لإلقاء المحاضرات التثقيفية المبسطة للبسطاء متوسطى الثقافة، ليكسر حاجز الخوف بين الناس والحاكم «وقتها كان وزيرا» وفى نفس الوقت أنشأ دار الكتب المصرية، بعدما رأى دور المكتبة الوطنية فى باريس، خلال بعثته التعليمية،وكان لدار الكتب نشاط تثقيفى فى إلقاء المحاضرات والحوار مع الناس، فيما يشبه التمثيل المسرحى، فى طريقة الحوار، وهى الطريقة التى تبناها على مبارك فى التعليم والتثقيف وسميت التعليم الشعبى. «تأثر على مبارك بطابع عصره التنويرى الذى رآه فى فرنسا، بلد الثقافة والنور والتقدم، وركز على فكرة تعليم المرأة، ولم يكن عجيبا أن ينشئ أول مدرسة للبنات، المدرسة السنية، لذا يعتبر عصر الخديوى إسماعيل الذى تألق فيه على مبارك، رفيق إسماعيل فى بعثة الأنجال للدراسة فى فرنسا، هو عصر النهضة الثانية، بعد فترة محمد على» تشرح د. لطيفة. عفيفى: «ما زلنا نحتاج لخطط مثل خطط مبارك التوفيقية» بينما يرى أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، محمد عفيفى أن طريقة كتابة الخطط التوفيقية، هى استكمال لنمط التاريخ الاجتماعى العمرانى، السائد فى الحضارة الإسلامية حتى القرن التاسع عشر، كما فى خطط المقريزى. لكن مع حلول القرن العشرين ووجود هيئة المساحة الجيولوجية، والتعداد السكانى، وأقسام الجغرافيا والعمارة والتاريخ فى الجامعات، كل منها يرصد التاريخ الاجتماعى والعمرانى، لكن فى شكل جزر منعزلة، وما زلنا فى حاجة إلى مشروعات كبيرة لرصد تاريخ الناس والعمران، على نسق الخطط التوفيقية، تتبناها الدولة. «لدينا أرقام من التعداد عن نسب الأمية فى قرية ما وعدد سكانها وعدد المدارس وغيرها، لكن لا تعطينا إجابات عن لماذا هذه الأرقام تختلف عن قرية أخرى مجاورة أو قرية أخرى شبيهة فى الصعيد، نحتاج مشروعا قوميا كبيرا لرصد التغيرات الاجتماعية والعمرانية عبر الزمن، تاريخ عمرانى وتخطيطى وسكانى فى رؤى مكتملة فى حقبة معينة، تفيد فى وضع استراتيجيات للمستقبل، مبنية على توصيف تشخيصى متكامل لتطور المجتمع المصرى» يشرح عفيفى.•