كانت كافيتريا كلية الإعلام أو بمعنى أصح كلية السياسة والاقتصاد هى آخر مكان نودعه فى سبعينيات جامعة القاهرة، بعدها نمر على أحواض زهور الباسنت الملونة والتى كان يحلو لكثير منا قطف بعضها للاحتفاظ بها بين أوراق الكتب والكشاكيل. نعود إلى بيوتنا ونستعجل الوقت لصباح جامعى جديد، حيث كانت الجامعة حياة متكاملة وليس مجرد مكان للدراسة. على مقاعد هذه الكافيتريا كان يجلس وزراء وسياسيون واقتصاديون وسفراء وأعضاء برلمان ورؤساء أحزاب ورؤساء جامعة وعمداء وأساتذة ورؤساء بنوك ورؤساء تحرير وإعلاميون وفنانون، وبسطاء لم يصلوا إلى مراكز مرموقة منهم من تمناها وفشل ومنهم من زهدها ونجح. فى السبعينيات كانوا جميعا طلابا وطالبات فى «إعلام واقتصاد» يقضون أوقاتهم قبل وبعد وبين المحاضرات فى مناقشات جادة وفارغة، صافية وهادئة، طويلة وقصيرة، بينما تحلق أحلامهم من فوق قبة الجامعة إلى عنان السماء الواسعة، وتملأ ضحكاتهم البريئة أرجاء الطرقات حتى تقطعها دقات الساعة فيسرعون إلى المدرجات. فى مدخل كلية السياسة والاقتصاد التى احتلت كلية الإعلام طابقها الرابع وفى طرقاتها وطوابقها كانت مجلات الحائط هى العامل المشترك الأعلى والتى تعبر عن تيارات سياسية واضحة وممتدة يسار ناصرى ودينى بدأ صغيرا على الاستحياء ثم استوحش حين غادرنا الجامعة. ولم تكن كلية الإعلام فى حاجة إلى مجلات الحائط، كنا نصدر جريدة «صوت الجامعة» التى كانت تماثل الصحف الكبرى فى أبوابها المتكاملة، جريدة يكتبها ويرسمها ويطبعها ويوزعها طلبة قسم صحافة. كانت صوت الجامعة صوتا حقيقيا تتحدث عن القضايا والأحداث والمشاكل بشكل مهنى يفوق التصور. وقد أصر الأستاذ جلال الدين الحمامصى الذى علمنا كتابة الخبر أن نوزع الجريدة بأنفسنا فى الجامعات والكليات وأحيانا الشارع، وكان الحرج والخجل يجعل بعض الطالبات يدفعن ثمن النسخ بدلا من توزيعها وحين عرف ذلك خصم لهن درجات من المادة لأن الهدف أكبر من النقود، والحقيقة أن التجربة كانت مثيرة وناجحة وتركت لنا عائدا معنويا، فقد تعودنا من خلال الاحتكاك بالناس الجرأة والاقتحام، حيث كان المجتمع خاصة الجامعى لم يعرف بعد طاهرة التحرش اللفظى وكانت أجرأ جملة تقال لنا «ح اشترى لو أنت كاتبة فيها». جامعة القاهرة فى السبعينيات نموذج مصغر للمجتمع المصرى، فيها الأغنياء والفقراء ومتوسطو الحال، ورغم ذلك كانت العين تحتاج إلى خبرة لتفرق بينهم، فلم تكن الفوارق الطبقية واسعة وواضحة، لم يكن يملك سيارة فى الأربع دفعات «إعلام اقتصاد» غير ثلاثة طلبة، وطالبة واحدة. وكانت الملابس بسيطة راقية حتى إن الطالبة الوحيدة التى كانت محجبة كانت ملابسها مثل زميلاتها مع إيشارب صغير، كانت الموضة وقتها تتراوح ما بين «المينى والميدى والماكس» أى كل الأطوال وكل واحدة حرة فى الاختيار وإن كان البنطلون سيد الموقف والأناقة والبساطة سيدة المجتمع. كان هناك من يستهويه صخب السياسة والخروج فى مظاهرات للمطالبة بالتغيير، ومن يفضل الدراسة والتفوق والبعد عن المشاكل، ومن يهوى الأدب والفن والرياضة. كانت الأماكن واسعة برحة ونظيفة تتخللها الخضرة والزهور، وكانت الساعة تدق بانتظام تضبط نشرات الأخبار على دقاتها، والدراسة جادة متعمقة ومنضبطة وبعض الأساتذة يسمحون لنا بالنقاش والاختلاف وإن كان معظمهم ملتزما بالكتاب، حيث لم تكن هناك مذكرات مصورة للحفظ فى كليتنا على الأقل. حين أتذكر جامعة القاهرة فى السبعينيات لا تمر علىَّ المشاهد مثل الفيلم الأبيض والأسود، ولكنها تظهر واضحة ملونة بألوان زهور الباسنت ومية بصوت المناقشات وفرحة الضحكات وسحر الأحلام. أنا محظوظة لأنى عشت زمنا يستحق أن يعاش. •