تونس بعد سبع سنوات من ثورة الياسمين لم تعد بخير؛ تجاوزت نسبة البطالة 15%، تباطأت الاستثمارات الأجنبية بفعل الاختلال الأمني، السياحة التى تمثل 8% من الناتج المحلى الإجمالى تراجعت بعد إرهاب 2015، وانخفضت قيمة الدينار بأكثر من النصف مقارنة بعام 2010، نسبة التضخم قاربت 7.5% سنويا، بسبب زيادة أسعار المواد الغذائية، وهى أعلى معدلات منذ أربع سنوات، العجز التجارى بلغ 6.25 مليار دولار بنسبة 14%، وهو مستوى قياسى جديد، نسبة الفقراء بلغت 30%، ومعدلات البطالة وصلت 15.3%، لكنها ترتفع فى بعض المدن الى 30%، الأجور والنفقات الاجتماعية تضخمت إلى حد ابتلاع نحو 75% من ميزانية الدولة، ونسبة الدين ارتفعت لأول مرة إلى نحو 70%. نقص فرص العمل هدم حلم الثورة، مما يفسر الزيادة الكبيرة فى معدلات الهجرة غير الشرعية، آخر دراسات «المنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، تؤكد أن الرغبة فى الهجرة إلى أوروبا لدى الشباب بين 18 و35 سنة كانت قبل الثورة فى حدود نسبة 37%، انخفضت خلال الأشهر الأولى من الثورة 2011 لتصل إلى نسبة 30%، لكنها عاودت الارتفاع المضطرد لتسجل عام 2016 نسبة 55%.. الإخوان حولوا حلم الثورة إلى كابوس مفزع، هذا اليأس تم ترجمته إلى انتشار لثقافة التطرف والإرهاب، تونس أكبر دولة صدَّرت مقاتلين للحرب فى صفوف داعش بسوريا والعراق «6000 مقاتل»، بخلاف مئات المتطوعات فيما سمى ب«جهاد النكاح»، القاضية التونسية روضة العبيدى رئيس الهيئة التونسية لمكافحة الإتجار بالبشر كشفت خلال ورشة عمل نظمتها وزارة الشئون الدينية التونسية بعنوان «محورية دور المرأة فى التصدّى للإرهاب» أن بعض التونسيات شغلن مناصب قيادية فى داعش، أسوة بالرجال، هذا ما جنته الثورة على مجتمع كان يمثل بسلميته وحميميته أهم مراكز الجذب السياحى فى المنطقة العربية. تونس حاولت مواجهة الواقع المتدهور بدفع الاستثمارات الأجنبية لتوفير فرص عمل وتحقيق تنمية اقتصادية، عرضت مشاريع تتراوح تكلفتها من 30 إلى 50 مليار يورو فى مؤتمر دولى لاستقطاب المستثمرين، لكنهم وافقوا على الثلث فقط، وألمانيا أكبر اقتصاديات أوروبا - المتحمسة للنموذج التونسي- اكتفت ب300 مليون، وجميع العروض لم يتم ترجمتها إلى واقع، ما ألجأ الدولة إلى صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض 2.4 مليار يورو على أربع سنوات، لكن روشتة الإصلاح كما اعتدناها، مصمتة وقاسية.. فرضت منذ يوليو 2016 طريقة التعديل الآلى لأسعار المحروقات، وبالطبع يترتب على أى زيادة زيادات مماثلة فى أسعار النقل والكهرباء ومختلف الخدمات التى تتأثر بدعم الطاقة، الحكومة مع بداية 2018 رفعت الأسعار ضمن حزمة إصلاحات لتخفيض عجز الموازنة، شملت المواد الغذائية والاستهلاكية، وفواتير الكهرباء والماء، والمصاريف الدراسية، وميزانية 2018 التى بدأ العمل بها فى يناير تضمنت زيادات فى الضريبة على القيمة المضافة والاتصالات الهاتفية والإنترنت والعقارات، والسيارات وبعض المنتجات المستوردة، وضريبة تضامن تقتطع من الأرباح والمرتبات، البرنامج يستهدف خفض العجز فى الميزانية وتقليل العجز التجاري، لكن آثاره الاجتماعية موجعة.. الضغوط تفاقمت على الطبقات الوسطى والفقيرة، أحدثت موجات عارمة من الغضب، وخلقت مناخًا هو المناسب لتداول دعوات الخروج إلى الشارع للاحتجاج.. الإخوان حاضرون. الثورة التونسية كانت البادرة لكل موجات الربيع العربي، انطلقت شرارتها فأحرقت جسد محمد البوعزيزى 17 ديسمبر 2010، وانتشرت، فانتصرت بهروب بن على 14 يناير 2011، الاحتفال بذكرى الثورة يتم عبر حشود ومسيرات واحتجاجات تنظم سنويًا، لكن أردوغان زار تونس منتصف شهر الاحتفالات ليرفع شعار رابعة بالقصر الرئاسى بقرطاج، فى رسالة دعم لا تخطئها العين للإخوان، والتقى راشد الغنوشي، للمرة الثانية بعد لقائهما المغلق السابق فى أنقرة يوليو الماضي.. ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب، كانت مبررًا كافيًا لإسباغ طابع خاص على احتفالات العام الجاري، التى تميزت بخصائص متفردة فى سجل الاحتجاجات؛ فهى مظاهرات ليلية وليست نهارية، تضم عدة مئات وليس آلافًا كما تعودنا من الحركة الطبيعية للشارع التونسي، ثم أنها اقتصرت على بعض المدن دون غيرها، معظمها قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، باستثناء مدينة سيدى بوزيد منبع الثورة على بن علي، بعض المحتجين عبروا الحدود الجزائرية ودخلوا منطقة بتيتة بولاية تبسة، ما يؤكد تأثير التيارات الخارجية، ثم أنها اتسمت بالعنف، وشملت عمليات سرقة ونهب للبنوك ومحلات السوبر ماركت والمنازل، وإشعال حرائق، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، عمليات التخريب استهدفت مقر الأمن الوطنى بمدينة تالة، وحاولت إلصاقها بالمتظاهرين، إلا أن الجماهير سارعت بالقبض على العناصر التخريبية، وسلمتها للجيش، مما يعكس عمق إدراك الرأى العام لأبعاد المؤامرة، عدد المعتقلين تجاوز ال800، بينهم 16 من التكفيريين!!، وعشرات من محترفى الإجرام وأصحاب السوابق، ما يؤكد توظيف الاضطرابات الاجتماعية لتحقيق أهداف سياسية، ويفسر سرعة نشر الجيش فى بعض المدن، وكالعادة هاجم مجهولون مدرسة دينية يهودية فى جربة بالقنابل الحارقة مستغلين انشغال قوات الشرطة بالتصدى للاحتجاجات التى توسعت رقعتها فى أرجاء البلاد، وتسبب الهجوم فى أضرار مادية بسيطة، البحث عن مبرر لإشعال الطائفية هدف ثابت لأعمال التحريض، رغم أن اليهود الذين يعيشون فى تونس لا يتجاوز عددهم 1800 شخص. الحكومة كالعادة، لا تجرى قياسات للرأى العام، ولا تجتهد لاستشراف التوقعات فى ضوئها، مما يجعل إجراءاتها مجرد ردود فعل للاحتجاجات، بكل ما يترتب عليها من خسائر، مما يفسر حزمة الإجراءات والبرامج الاجتماعية التى أعلنت عنها، والتى كان ينبغى أن تسبق إجراءاتها المالية.. زيادة الدعم المالى لحوالى 250.000 أسرة من الفقراء ومحدودى الدخل.. وتوفير قروض السكن، وتقديم منح للمعاقين، ورفع الحد الأدنى لمعاشات التقاعد، وتوفير الرعاية الطبية للعاطلين.. كلها إجراءات جيدة وفعالة، لو استبقت الغضب. تبادل الاتهامات بالمسئولية عما حدث بين الحكومة والمعارضة، وبين الإخوان واليسار، لا تعنيني، ولا تستحق التحقيق، لكن الإشكالية الكبرى التى تسبب غضب الرأى العام، والحنق على السلطة، هو الإهمال فى مواجهة الفساد، وهو فى أبسط صوره يلعب دورًا أساسيًا فى رفع الأسعار؛ فكلفة الرشاوى التى يدفعها القطاع الخاص يتم تحميلها على تكلفة الخدمة أو المنتج، وبالتالى تقع على عاتق المواطن، ناهيك عن تنفيذ مشاريع أو تقديم خدمات أو طرح سلع تفتقر للجودة.. الحكومة تضم 44 وزيرًا، فى دولة تستنزفها مرتبات الوزراء والمسئولين والنواب الضخمة، بينما يضعون برامج لخروج العمال وصغار الموظفين للتقاعد المبكر توفيرا لرواتبهم، الحكومة تحت الضغط حاولت القيام بدور يُحسب لها فى الحرب على الفساد، قبضت على 8 من بينهم شفيق جراية، أحد أكثر رجال الأعمال نفوذا فى عهد زين العابدين بن على والحليف المقرب للرئيس السبسي، فتحرك البرلمان، كجزء من شبكة المصالح، وأصدر عفواً شملهم ضمن شخصيات أخرى تنتمى للنظام السابق ومتورطين فى قضايا فساد، مما أثار الاستياء. المبرر الذى يطرحه النظام لشجب الاضطرابات هو «أن ثورة 2011 استهدفت نظامًا استبداديًا بينما التحركات الجديدة تستهدف نظاماً ديمقراطيًا منتخبًا بمؤسساته التنفيذية والبرلمانية والقضائية والمجتمعية»، لكن هناك حقيقتين ينبغى له إدراكهما؛ الأولى أن ما جرى فى البلاد تضمن احتجاجات شعبية مشروعة على غلاء الأسعار وصعوبة ظروف العيش وسوء ترتيب الإجراءات، فلو سبقت حزمة الإجراءات الاجتماعية نظيرتها الإصلاحية، أو حتى تزامنت معها لاختلف سيناريو الأحداث، واختل ترتيب الوقائع، الثانى أنه طالما شارك الإخوان أعداء الدولة، فى مؤسساتها السياسية والتشريعية، سعيًا لإرضاء الغرب، والتعلل بديمقراطية زائفة، فسوف يسعون لتهيئة المناخ لإثارة السخط، بدليل أنهم كانوا أول المؤيدين للإجراءات التى أثارت الاحتجاج، ثم كانوا هم على رأس المشاركين فيه، الإخوان بالمنطقة لم يعودوا يراهنون على شعبيتهم، فهذا رهان خسروه منذ خروج 30 مليون مصرى يطالبون بإسقاطهم، لكنهم يراهنون على إسقاط نظام الحكم، للتحول لدولة فاشلة، قبل القفز عليها من جديد، الفارق بين المشهد فى يناير كما حدث فى تونس، ونظيره فى مصر، يعكس حقيقة من استوعب الدرس، مصر بكل ما تحمَّله شعبها من أعباء، يتم رفعها لدرجة أرقى فى التصنيف الائتماني، وسجلات المشاريع تبهر الجميع، والحرب ضد الفساد بدأت دون حصانة لأحد، ولكن علينا أن نستوعب الدرس، فمازال أعداء أوطاننا لم ييأسوا، يدركون أن «تونس مازالت الإجابة!!»، لذلك يلعبون على ساحتها، ندرك أن الظروف بالغة الصعوبة، وأن الأصدقاء تخلوا، وتركونا للصناديق والبنوك أمريكية التوجيه، وأردوغان يتربص، ويجيد اختيار التوقيت لجولاته، وتميم لحق به فى أنقرة للاستكمال، فلتقترن برامج الإصلاح دائمًا بإجراءات الحماية الاجتماعية، ولا ينقطع حبل التواصل مع الرأى العام، فهو الظهير الحقيقى لأى نظام، ولتسترد الدولة إعلامها، دون أن يعنى ذلك إعلام الرأى الواحد، أو منهجية المديح، حتى يظل المواطن متعلقًا بإعلامه.. ألا قد بلغت.. اللهم فشهد.