ريشة الفنانة - هبة المعداوي فى شوارع «تطون» عيون الأمهات يملؤها الشوق، واللهفة، والرغبة فى احتضان رائحة العرق التى تفوح من قميص رث، أو جلباب بال، أو حذاء متناثر لابن غائب.. لكن تغلبها متعة التملك، وشهوة المال التى تشعر بها حينما يعود الابن من هجرته غير الشرعية، محملاً بعلب الشامبو البيضاء، وزجاجات العطور الصفراء، وحزم الدولارات الخضراء، فيتحول عذاب الأيام الخالية إلى نعيم، ليس للابن المهاجر فقط، ولكن لأسرة بالكامل، أعياها الدهر بحثا عن خبز مغموس بالماء. قرية «تطون» تتبع مركز «إطسا» بمحافظة الفيوم، تبعد عن مدينة الفيوم 45 كم، يبلغ عدد سكانها سبعين ألف نسمة، واشتهرت بهجرة أبنائها إلى أوروبا. خلال تجولنا فى القرية العجيبة التى تحولت إلى قطعة من إيطاليا، التقينا ب«مكاوى سعيد الزغبي». عم «مكاوي» ساند وساعد الكثير من شباب القرية ممن يحلمون بالسفر إلى جنة الله فى الأرض «إيطاليا» كما يصفها الناس هنا.. مكاوى سافر إلى إيطاليا أكثر من ثلاث مرات زائرا لأبنائه وأقاربه هناك، وثلاث من أبنائه فى ميلانو، والرابع يعمل فى السعودية، بعد فشل رحلته إلى إيطاليا، ووقوعه فى يد الشرطة بعد وصوله هناك. خلال تجوله فى ميلانو التقى عم «مكاوي» بالعديد من المصريين هناك وتحدث معهم عن قرب، مؤكدا أن من ينجح فى البقاء يتغير حال أسرته بالكامل. نار الغيرة سبب رحلة الموت يرى عم «مكاوي» أن الدافع وراء سفر الشباب هو الغيرة، ويضيف بعد أن فقدت العراق وليبيا والسعودية بريقها المادى، تم الاتجاه إلى أوروبا، «فى بداية التسعينيات بدأ السفر إلى إيطاليا، كانت التأشيرة رخيصة، ولم يكن للسماسرة وجود». بداية لعب السماسرة كانت فى 1998، عن طريق استخراج جواب بنكى، وحجز فنادق فى دول إسبانيا وكوبا، ومنها يتم الدخول إلى أى بلد أوروبى، ومنها إلى إيطاليا، ولكن فى عام 2009 أصبح السفر من «تطون» إلى إيطاليا عن طريق «برج مغيزل»، وسماسرة غير معروفين - على حد وصفه. «فى عمليات الهجرة غير الشرعية لا نملك سوى رقم هاتف السمسار الذى نذهب إليه فى قهوة أم كلثوم بميدان عبدالمنعم رياض»، يؤكد مكاوى ويكمل: لا يلتقى أحد ممن سافروا بالسمسار، نضع المبلغ المتفق عليه على ترابيزة بالقهوة ونتلقى اتصالا منه بالتمام. بعدها بثمانية أيام يتلقى صاحب الكيس اتصالا بميعاد السفر، ويخرج المهاجر من القرية إلى مكان التخزين، وهو مكان فى قرية «برج مغيزل» يختبئ فيه المهاجرون لحين موعد ركوب البحر، و مدة الرحلة فى البحر تستغرق من 5 - 11 يوما.. وقال «مكاوي»: فقدت «تطون» 256 شابا من 2007 حتى الآن، وغرق نحو 30 مركبا كان على متنها شباب من القرية، وأضاف كل أسرة هنا فُجعت فى عزيز لها، ويتذكر قائلاً من المواقف التى لا تنسى عندما عم القرية السواد لفقد ستة من الشباب عادوا جثثا هامدة من رحلة هجرة فاشلة، وبعد عودتنا من المقابر فوجئنا بسيارة ميكروباص محملة بفوج جديد من الشباب المهاجر. يلخص «مكاوي» السبب وراء تضحية الأهل بأبنائهم فى رحلات لا يعرفون نتائجها قائلاً: «إللى معاه الإقامة فى إيطاليا عريس لقطة»، وضحك قائلا المثل الذى يقول «تأشيرة إيطالية أحسن من شهادة الكلية». النوم تحت الكبارى والتقط منه أطراف الحديث «شعبان الزغبي»، العائد من إيطاليا فى إجازة، فى نهاية عقده الخامس يرتدى «جلباب بلدي»، من أصحاب الموجة الأولى التى سافرت إلى إيطاليا من «تطون»، سافر فى 1995، ويعمل مقاولا فى ميلانو، ويستقر الآن فى إيطاليا حيث الإقامة الدائمة له ولأسرته بالكامل. قال إن الأوضاع الاقتصادية بدأت تسوء فى إيطاليا منذ 2007، فى ميلانو وحدها أكثر من 30 ألف شاب مصرى ينامون تحت الكبارى وفى الحدائق العامة، مؤكدا أن هؤلاء يعملون فى الدعارة والمخدرات. ابن المحظوظة مبانى القرية فارهة، يبدأ ثمنها من ثلاثة ملايين، عمارات وفيلل ومبان يتعدى سعرها خمسة عشر مليونا، وسعر قيراط الأرض يبدأ من مليون جنيه، بنى أبناء القرية ممن سافروا إلى الخارج العديد من المساجد على نفقتهم الخاصة، حتى وصلت إلى 35 مسجدا.. على المقهى الوحيد الموجود فى القرية التقينا بشباب سافروا إلى إيطاليا أو على الأقل كانت لهم أكثر من محاولة للسفر، حمدين شكرالله، 32 سنة يعمل فى إيطاليا منذ 2005، حاصل على الإقامة، سافر عن طريق ليبيا على مركب حملت على ظهرها 150 شابا مصريا، متزوج، ولديه طفلة، زوجته تقيم فى «تطون» ويأتى لزيارة أهله كل ستة أشهر، يعمل «حداد معمار». حمدين جاءته أكثر من فرصة ليعمل فى مجالات أكثر راحة كالمطاعم، ورفض حتى لا يأكل لحم الخنزير ولا يحمله للزبائن، ويرى أن إيطاليا أفضل حتى لو كانت بطريق غير شرعى، حيث التعامل الراقى فى الدول الأوروبية. ويتدخل عبدالله: «من يكتب له النجاة ويصل إلى البر التانى يدخل الجنة من أوسع أبوابها».. وهنا علق الشباب «ده ابن محظوظة»، وهى الكلمة التى أغضبته ظنا أنهم يحسدونه، فرد «أنا تحملت كثيرا، سافرت ليبيا تهريب، وانضرب علينا نار على الحدود، قعدت أكثر من 15 يوما فى التخزين، لم نأكل خلالها سوى مسلوق ومعلبات، أنا تعبت وربنا كرمنى. الفرصة الضائعة أما رمضان السكرى، 33 سنة، التحق بالمدرسة الثانوية الصناعية، ولم يكمل تعليمه، متزوج، له ولد وخمس بنات، أسرته ترفض سفره، ويعمل نقاشا، كانت له أكثر من تجربة للسفر مع أكثر من سمسار، بدأت محاولاته منذ عام 2003، وقع العديد من إيصالات الأمانة ليجمع المال اللازم، وأول إيصال كانت قيمته 18 ألف جنيه، فى تجربته الأولى، ثم زاد المبلغ فى التجربة الثانية الى 24 ألفا، وفى الثالثة والأخيرة بلغت قيمة إيصال الأمانة 25 ألفا فى 2007، وينتظر رمضان الفرصة المناسبة لدخول جنة الله فى الأرض. ولا يختلف عنه عامل المقهى الذى دفع 26 ألف جنيه، بعد أن باع ذهب زوجته، وجزءا من بيته وعندما سألته: لماذا لم يفتح مشروع هنا؟، قال: مش لاقى هنا، هأعمل إيه؟، وأردف «لا طلت بلح إيطاليا ولا حتى جميز تطون». مهما طال الزمن فى «تطون» كل منزل يحتوى على عدد من المحال التجارية، والمشاريع التى أقامها أبناء القرية ممن سافروا إلى إيطاليا.. فلا يوجد منزل إلا وبه أكثر من مشروع تجارى تديره الزوجات، والقرية تحتوى على جميع الخدمات من خلال مشاريع أسسها الشباب. عبدالرحمن 27 سنة، واحد من أبناء تطون، خريج كلية الحقوق جامعة حلوان، يجيد الخط والرسم، ويتحدث اللغة الأوردية، ويعمل محاسبا فى السعودية منذ ثلاث سنوات، وسيسافر بعد أيام إلى السعودية للعمل مترجما هذه المرة، له ثلاثة أشقاء فى ميلانو، وكانت له تجربة سفر لإيطاليا، قبض عليه هناك وتم ترحيله إلى مصر، يقول «سأسافر إلى إيطاليا مهما طال الزمن». حال عم «حسن» موظف على المعاش، من أسرة تجيد الحرف اليدوية، كان يعمل نقاشا إلى جانب وظيفته بالوحدة المحلية، لم يسافر إلى الخارج هو أو أحد من أشقائه، الذين يجيدون حرفة النجارة. عم حسن استقبلنا فى منزله، وشربنا معا القهوة الفرنساوى، يرفض الهجرة غير الشرعية، ابنه الذى سافر إلى فرنسا منذ ثلاثة سنوات ليعمل نقاشا هناك، «تعرفت على قبطان بحرى ساعدنى على إلحاق ابنى للعمل على المركب الذى يقوده، وسافر معه مرتين، حتى استطاع القبطان تهريبه من داخل الميناء بفرنسا، ومن وقتها وهو يعمل هناك، لكن ابنه لم يزر مصر حتى الآن، التزاما منه بالقانون الفرنسى ليحصل على الإقامة. برج مغيزل ومن قرية «تطون» إلى قرية «برج مغيزل» التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفرالشيخ، البالغ عدد سكانها 55 ألف نسمة، 99 % منهم يعملون بمهنة الصيد، لامتلاكهم ثانى أكبر أسطول لمراكب الصيد على مستوى العالم، وتعد هذه القرية المعبر، أو الميناء، التى يعبر خلالها الشباب الحالمين بالسفر إلى أوروبا، كما أن أكثر من 20 % من شبابها خرجوا منها عن طريق أسطول الصيد الموجود بها إلى أوروبا، حيث لا يوجد منزل فيها إلا وفيه صياد مات غرقا، أو محتجز فى سجن خارج مصر، أو مفقود. والبعض يرى أن الصيادين بالقرية تحولوا إلى «سماسرة موت» مهمتهم إغراء الشباب على الهجرة إلى الدول الأوروبية، ورغم انتشار الظاهرة بشكل كبير، ومستمر منذ ما يزيد على عشرين عاما، فإن الوضع فى القرية لا يتغير، كأنها طواها النسيان، وأصبح نساؤها لايعرفن إلا الأسود، وشبابها ورجالها لايرون إلا الموت فى طريقهم للبحث عن لقمة العيش. ويصل «برج مغيزل» كل عدة شهور جثث لشباب أغراهم حلم السفر إلى الخارج وغرقوا أثناء محاولات التسلل عبر البحر، وبالرغم من ذلك الرغبة فى السفر ملحة، كل يحلم بالسفر إلى إيطاليا أو فرنسا، الغريب أن التشجيع من الأهل يفوق المتوقع، بل إن البعض يسعى بنفسه للبحث عن سمسار، أو إيجاد فرصة لأبنائه ليسافروا إلى أوروبا. •